انظروا
في الدنيا من العجائب والغرائب
الكثير، ومن العِبر والعِظات أكثر من تِعداد سابِقَيها لـمَن لحظ وأبصر.
الكاتبة الأمريكية هيلين آدمز كيلر، عاشت جزءًا من حياتها في نهاية القرن التاسع
عشر وكثيرًا من القرن العشرين؛ وكانت مُعاقةً منذ الولادة، فلا ترى ولا تسمع ولا
تتكلم!!
قرأتُ لها مقالًا بعنوان (لو أبصرتُ
ثلاثة أيام)، تُرجم إلى العربية وطُبع في كُتيب من أربعين صفحة تقريبًا، تتناول فيه
بخيالها ما ستفعله لو رُدّت إليها قُواها البصرية لثلاثة أيام فقط؛ تحاول بهذا:
· أن
تحثّ الـمُبصرين على تقدير هذه النعمة حقّ قدرها، وإعطاء الجمال من حولهم فرصة
للوقوف والتأمل، فهي تقول: "لقد اقتنعتُ منذ زمن
بعيد أنّ هؤلاء الذين يُبصرون لا يرون إلا قليلًا"، وتقول: "لو كنتُ رئيسة جامعة لفرضتُ مادةً إجبارية حول موضوع:
(كيف تستفيد من عيونك؟)".
· أن
تعيش بخيالها ما لم تَعِشه بعينَيها، ورغم أنها حاولت بالخيال، لكنها لا تزال تقول
بالتأوّه "ما أكثر الأشياء التي عليّ أن أراها
لو توافرت لديّ حاسة البصر لمدة ثلاثة أيام فقط!".
ومع أنها تتخيل؛ إلا أن كلامها يُبدي
وفاءً لـمَن أحسن إليها بحالتها هذه، فإن بحثتَ في سيرتها، أو قرأتَ مقالتها، ستجد
أنّ أول شيءٍ قرّرت أن تراه -لو أبصرت-؛ وجه مُعلّمتها ومُربيتها! وكم في هذا من
دلالة على فضلها عليها؟ وأنّ هذه الإنسانة قد سُخِّرت لها! فكيف وهيلين نفسها تقول
بصراحةٍ مؤثرة: "أولًا سيكون عليّ أن أُنعم
النظر طويلًا في مُحيّا عزيزتي وأستاذتي الآنسة صاليفان ماسي، التي جاءت إليّ ذات
يوم كنتُ فيه طفلة، وفتحتْ أمامي هذا العالَم الجديد. لا أريد أن تكون رؤياي عابرة
تقتصر على تأمل الملامح البارزة لأسارير وجهها من أجل الاحتفاظ بذكراها في مخيلتي
فقط، ولكني أريد ن أدرس ذلك الوجه درسًا، لأقرأ فيه الشاهد الجليّ على ذلك العطف
والود والصبر الذي كانت تتحلّى به وهي تقوم بأداء مهنتها الشاقة من أجل تربيتي
وتعليمي. أريد أن أرى عينَيها المليئتين بالعزم والقوة التي جعلتها تقف وقفةَ شهم
حازم أمام سائر المصاعب... عينَيها المليئتَين بالرحمة والشفقة بجميع أفراد
البشر!" وإننا لا نحتاج أن نبحث أكثر عن صنيع صاليفان، بل يكفي أننا
نعلم أن تلميذتها عمياء بكماء صماء؛ لندرك حجم الصعوبات في عملية تربيتها
وتعليمها.
أما الحِكم التي في مقال هيلين، والتي
دلّت على تعليمها وقراءتها وتأملها في الأشياء -رغم حالتها الصعبة التي تَشي باستحالة
التعلّم للوهلة الأولى-، فهي:
· إدراكها
لسبيل المعرفة بأعماق الشخصيات، تقول: "أعرفُ
صديقاتي وأصدقائي عن طريق لمس وجوههم لكني لا أقدر حقيقة أن أرسم صورة في مخيلتي
لأشخاصهم عن طريق مجرد اللمس، أعرف شخصياتهم طبعًا من خلال وسائل أخرى... ومع ذلك
فإني محرومة من النفاذ إلى أعماقهم، وذلك النفاذ الذي يتم -دون شك- عن طريق النظر
في وجوههم.. عن طريق ملاحظة ردود أفعالهم".
· رؤيتها
لضرورة الإقرار بالألم، فهي تقول: "بعض المشاهد
محزن فعلًا.. وبالنسبة إلى هذه أيضًا فإني لا أغمض عيني عنها لأنها في نظري تمثّل جانبًا
من جوانب الحياة، وأعتقد أن صرف العيون عن مثل هذه المشاهد، ولو أنها محزنة، هو
إغلاق للقلب وإغلاق للفكر".
· تقديرها
للأشياء التي بُخست حقّها، تعرف ذلك من أمنيتها الخيالية: "سأستيقظ مع الفجر لأرى تلك المعجزة الهائلة: معجزة انسلاخ الليل عن
النهار، وتحوّل الطبيعة من عالمٍ مُطْبق إلى عالمٍ مُشرق".
· أثر
الكتب التي قرأتها عليها، يظهر في قولها: "إن
جميع تلك الكتب -سواء منها التي قرأتُها بنفسي أم التي تُليت عليّ- مَلأن أمام
مخيلتي الفجوات العميقة للحياة الإنسانية وللفكر الإنساني طوال الليل الذي صَحِبني
في حياتي".
· إدراكها
لاختلاف الأولويات والاهتمامات، إذ تقول ضمن ختام مقالها: "هذا العرض الوجيز عن استغلال الوقت طيلة هذه الأيام الثلاثة من
أيامي المبصرة، ربما لا يتفق مع الطريقة التي قد تختارونها لأنفسكم لو كنتم مكاني،
ولكني مع ذلك متأكدة من أنكم إذا واجهتم هذا القضاء فإن عيونكم ستُفتح أمام
الأشياء التي لم تروها من قَبل مدّخرين ذكرياتكم لليل الطويل العريض الذي
ينتظركم".
وبعد تجربة هيلين الـمُبهرة
المعتبِرة، لا يزال يبقى من المهم أن يُقال: إنّ البصر على
قدر ما يفتح للإنسان من جمالٍ ونِعم لكنه قد يجرّه كذلك لكثير من الوَيل والنِّقم،
فمَدّ البصر على كل شيء بإطلاق دون تقييد أو إغلاق؛ يضر ولا ينفع، ودليله إنْ كان
المرء على أي ملة غير الإسلام هو كثرة تسخط الناس من أحوالهم بعد رؤيتهم لانفتاح
الدنيا كمادة على غيرهم من دونهم، وشيوع الحسد -تمني زوال النعمة عن الآخرين- حين
يرونهم بمقاييسهم غير مستحقين لها! وأما إن كان المرء مسلمًا، فليقف متعلّمًا
متدبرًا لقول الله تعالى في كتابه: {وَلَا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} [طه:131]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى
مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) [أخرجه
مسلم:2963].
ويُعرف هذا الأثر متجليّا في الصورة المضادة
له (رؤية حال مَن يفوقنا)، وهو المعنى ذاته الذي يصدق اليوم على منصات التواصل
الحديثة، التي تُبهر النفس بالبصر الممدود إلى المفقود، وتُغفلها عن إدراك النعيم
المتوفر الموجود! ومن الدراسات الغربية ما يربط بين انتحار المراهقين وبين رؤيتهم
لأنماط حياةٍ أعلى منهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ففي موقع منظمة KVC
الأمريكية المختصة بالصحة النفسية جاء في أحد مقالاتهم: "ربطت الأبحاث بين
استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والاكتئاب وزيادة خطر الانتحار، وذلك من خلال عرض
حياة مُختارة بعناية على منصات التواصل. وقد يدفع هذا المراهقين إلى مقارنة حياتهم
بالمشاهد على الإنترنت، مما يؤثر سلبًا على ثقتهم بأنفسهم"، وبالتأكيد هذا
الوقع على نفس المراهق ما كان ليكون دون أن يكون قلبُه وعقله مُهيئَين مُسبقًا
للتأثر بهذا الفارق الشاسع في الحياة المادية، خلافًا لـمَن يعرف أن الدنيا بَعدَها
آخرة، وأنّ النفوس مُلك لله ولا يحق للمرء هدرها وإزهاقها ولو كانت بين جنبَيه.
وحين نستصحب هذا المعنى تكتمل النصيحة:
النظر فيما حولنا مما أُذن لنا بإبصاره، ثم إتباع ذلك بالفكر في نفعه أو جماله؛
مما يُعيننا على تقدير نِعم الله حقّ قدرها، وبالتالي محاولة الترقي في تقدير
خالقها العظيم سبحانه حقّ قدره. فلن أقول كما قالت هيلين: "ختامًا.. افتحوا
أعينكم!" فإن فتح العين على مصراعيها قد يعني فتحها بلا قيد، ومدّها إلى ما لا
ينبغي، وربما تعليق القلب بالمرئي، ولكن سأقول كما قال الله جّل وعلا في كتابه
الكريم عدة مرات: {انظُرُوا} "نظر الفكر
والاعتبار والتأمل" [تفسير السعدي لآية 101 بسورة يونس]، وهو ذات اللفظ الذي
ورد في الكلام النبوي السابق، وفيه إشارة إلى جدوى النظر إلى ما يُعتبر.
فالحمد لله على نَعمائه، والشكر
له وحده على توفيقه وامتنانه؛ وإنّ فقد البَصر بالـمَشاهِد قد يُعوّض، ولكن
البصيرة بالحق والاهتداء بالنور لا مُعوِّض لهما، فكيف بـمَن جمع الله له النعم،
ودفع عنه كثيرًا من النقم، فاللهم أوزعنا شكر نِعمك على الوجه الذي يُرضيك عنا.
جُمانَة بنت ثَروَت كُتبـِي
20 / 12 / 1446هـ
* كتابات سابقة ذات صلة:
عظيم 🩵!!!!
ردحذفزادك الله من فضله صديقتي الرائعه وسدد فكرك ونفع بعطائك، سلم قلمك وبنانك وبارك فيك 🩵
ردحذفأنا من محبي رؤية التقاء الليل بالنهار وعكسه، سبحانه في خلقه
ردحذف