نِعمةٌ وبَليّة وآفةٌ خَفيّة
في إحدى الروايات التي قرأتُها منذ سنوات
عبارة، أستحضرها مؤخرًا وبقناعة كبيرة "الحقيقة أغرب من الخيال"! ففي
الحين الذي تهفو فيه الأسماع لجديد القصص المتخيلة والأحداث المبتكرة، نجد من
حولنا تجارب ومواقف لأناس نعرفهم أو يعرفهم مَن نعرفهم، أو يعرفها الناس كافة بعد
أن تُذاع وتُنشر؛ يجمع تلك القصص أنها تدعونا للدهشة! ثم تحثّنا على التأمل.. أكثرَ
مما تفعل إبداعات قرائح الكُتّاب وابتداعاتهم!
هناك أناس يستثمرون هذه القصص الواقعية
العجيبة في حديثهم العابر أو الجاد، فالعابر لإمضاء الوقت والتفكّه، والجادّ في
الدلالة على مسائل مُعينة، مثل: عدم الاستسلام واليقظة، وعاقبة الظلم والبطش، وحسن
اجتماع الكلمة، وغير ذلك مما يتّعظ بسماعه العقلاء عادةً. أود أن أؤكد هنا على
فكرة أن في معرفة هموم الآخرين سلوى ومَشغلة عن التفكير في الهم الشخصي أو التقليل
من المبالغة في حجمه، وفي العموم إلى حسن التصرف معه.
وإنّ في تهدئة الرَّوع، والحفاظ على سلامة
اللٌّب؛ مع الهم الشخصي خُطوة. خُطوة نحو التفكير السليم في طريقة التصرف مع
المشكلة التي يعيش فيها الفرد. ولا شك أن طرد هَمَزات الشياطين مَكسبٌ عظيم مطلوبٌ
لذاته أبدًا، وفي هذا السياق للمؤمن لَزَمًا، فما أشدَّ غُنم الشيطان إذا ظفر
بيائسٍ؛ خصوصًا لو كان وحيدًا! وما أشدَّ سُروره به؛ إن كان عن حِياض الإيمان بعيدًا!
ثم
هناك شيءٌ يؤلم الإنسان أكثرَ من ألمه، إذ مهما اشتدّ بلاؤه وعَظُم؛ سيكون وقع
التجاهل والتغافل -ناهيك عن الاستهزاء والسخرية- أعظم وقعًا! فتُفجَع النفس مرتَين:
مرة بالبليّة، ومرة بهوانها على الناس! ستُفجع بعض النفوس حين ترى أن الحياة
مستمرةٌ على وتيرتها وإيقاعها، هي كما هي بعد الكارثة التي حّلت به؛ في نفسه أو
أهله أو داره أو شيئًا ما في عالمه الصغير، ويُصيبه الذُّهول للحظات أنّ الشمس على
شروقها وغروبها باقيةٌ! وأنّ الدُّورَ لا تزال في الليلِ ساكنة! وفي الصباح لزقزقة
العصافير مستقبِلة! فلا شيء من آثار مُصيبته قد عمّ وطمّ! ولا تحركت من الدنيا شَعرة!
لو تفكر المفجوع منا قليلًا.. لوجد العالَم
يجتازُ دومًا طوامّ عِظام دونما تأثرٍ كبير، وصورٌ من ظلم الإنسان للإنسان لا تخلو
منها مرحلةٌ من الزمان! كأنما ضُمّن الاستمرار في عجينة هذه الحياة الدنيا، وأنها
سائرة مستمرة حتى ينتهيَ الزمان، ولا يبقى مكان، فلا شيء إلا قيام الساعة مُوقفٌ لتجاوزها
العجيب!
طالما أن الأمر كذلك.. فليس من الحكمة أن
يُحمّل المرءُ نفسَه أكثرَ مما يُطيق؛ بمضاعفة حزنه بتذكير نفسِه المستمر بتغافل
العالَم عما يمرّ به، فيشعر بوقوع الظلم عليه، وربما الحاجة إلى التشفّي ممن تجاهل
وتغافل! لعل هذه الحالة تكون قليلةً في المصائب الذاتية الخاصة، لكنها تكونُ ملموسةً في المصائب الضخمة، كالحروب والزلازل والمجاعات؛ التي تطالُ مجموعةً من
الناس في رقعة جغرافية كبيرة.
في هذه الدنيا من عجائب الابتلاءات شيءٌ
كثير، فلا يحيط بها عقل واحد ولو حَرص.. وتلك الإحاطة ليست بمرغوبة ولا مطلوبة، لكن
الاستعداد بالعُدّة اللازمة هو الـمَرجو أثرُه، والـمُؤَمَّل نفعه.
ومن
أقوى العُدَد المحصِّنة هنا بإطلاق: ألا تُنسينّك بَلواك بِحار النِّعم التي
أعطاكَها مَولاك! "تجد الرجل منغمسًا في النعم
وقد أحاطت به من كل جانب، وهو يشتكي حاله ويسخط مما هو فيه، وربما أنكر النعمة.
فضلال النفوس وغيّها لا حدّ له تنتهي إليه، ولاسيما النفوس الجاهلة الظالمة" [شفاء العليل، ابن القيم، (3/ 1081)].
و "من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة
أنعمَ الله بها عليه واختارها له، فَيمَلُّها العبدُ ويطلب الانتقال منها إلى ما
يزعم لجهله أنه خيرٌ له منها، وربُّه برحمته لا يُخرِجه من تلك النعمة ويَعذره
بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعًا بتلك النعمة وسَخِطَها وتبرَّمَ بها
واستحكم مَللُه لها سَلَبه الله إياها؛ فإذا انتقل إلى ما طلبه، ورأى التفاوت بين
ما كان فيه وما صار إليه؛ اشتدَّ قلقُه وندمه وطلبَ العودة إلى ما كان فيه. فإذا
أراد الله بعبده خيرًا ورشدًا أشهدَه أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ورَضَّاهُ به
وأوزعَه شكره عليه؛ فإذا حدَّثتْه نفسُه بالانتقال عنه استخار ربَّه استخارةَ جاهلٍ
بمصلحته عاجزٍ عنها مُفوِّضٍ إلى الله طالبٍ منه حسنَ اختياره له.
وليس على العبد أضرُّ من مَلَلِه لنعم الله؛ فإنه لا يراها نعمة
ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يَسخَطها ويشكوها ويعدُّها مصيبةً، هذا وهي من
أعظم نعم الله عليه. فأكثر الناس أعداءُ نِعَمِ الله عليهم، ولا يَشعُرون بفتح
الله عليهم نِعمَه، وهم مجتهدون في دفعها وردَّها جهلًا وظلمًا؛ فكم سَعَتْ إلى
أحدهم من نعمةٍ وهو ساعٍ في ردِّها بجهده! وكم وصلتْ إليه وهو ساعٍ في دفعها
وزوالها بظلمه وجهله!" [الفوائد، ابن القيم،
(1/ 262-263)]
والبلاء
في نظر المؤمن نعمةٌ من وجه، والاتعاظ به للعاقل كبير، والاعتبارُ منه للمتأمل
كثير، ولعل من أظهر تلك العبر والعظات: التذكير بما جُبلت عليه الحياة الدنيا
فيتشوّف الإنسان إلى الحياة الآخرة، وتعميق الإيمان بقضاء الله فيما كره الإنسان
كما يُقرّ بذلك فيما أحب، "وقد اقتضت حكمته
سبحانه أن جعل اللذات تُثمر الآلام، والآلام تُثمر اللذات. والقضاء والقدر منتظم
لذلك انتظامًا لا يخرج عنه شيء البتة" [شفاء العليل، ابن القيم، (3/ 1318)].
أما
الرابح الأكبر من البلايا العِظام، فهو مَن وُفق لزيادة الإيمان، إذ ولّى وجهه شطر
العظيم المنّان، الذي يَهب مَن يشاء ما يشاء، ويرفع ويُذل مَن يشاء، ويفعل ما
يشاء، بحكمةٍ تامّة وقدرةٍ كاملة، فأدركَ الـمُبتلى أن مردَّ الأمور ومُنتهاها
إليه، وأن نَواصي العباد بين يديه، فسجد له مُخلصًا، وخضعَ له مُنيبًا، فيا تُرى
ما الشأن فيمَن هذا شأنه؟
إنّ
هذا لشأنٌ عظيم، هذا "مشهد الذُلّ والانكسار
والخضوع والافتقار للرب جلّ جلاله، فيشدّه في كل ذرّة من ذرّاته الباطنة والظاهرة
ضرورة تامّة وافتقارًا تامًا إلى ربّه ووليه، ومَن بيده صلاحه وفلاحه وهداه
وسعادته. وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تُدرك
بالحصول، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء... فما أقربَ الجبر من هذا القلب
المكسور! وما أدنى النّصر والرحمة والرزق منه! وما أنفعَ هذا المشهد وأجداه
عليه!" [مدارج السالكين، ابن القيم، (304)].
ومَن
كان هذا شأنُه؛ فلن ينفجع بغفلة الناس أو إعراضهم!
اللهم
قرِّبنا إليك، واجعلنا من الصابرين والشاكرين، والذين إذا عظمُت بلواهم وطالت؛
ازدادوا إيمانًا مع إيمانهم، واجبر اللهم قلوبَنا بما علِمته خيرًا لنا في الدنيا
والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بك.
جمانة بنت ثروت كتبـي
12 / 6 / 1446هـ
تعليقات
إرسال تعليق