مرآة خاصة
تمتاز
المرآة بقدرتها على مواجهة المرء بما هو عليه اللحظة: ما له من جمال وما عليه من
عيوب، وما هو محايد فلا يتضمن بنفسه سلبًا أو إيجابًا إلا بحسب ما يتم التوجيه،
كالعمر. وغير المرآة المادّية المعروفة في التاريخ البشري توجد مرآة الصديق، الذي
يصدُق صديقه فيصارحه بالجيد فيه لِينمّيه ويُبقيه، وبالسيء كذلك ليقاومه أو يستره
ويُخفيه. وتوجد مرآة ثالثة، ذاتية غير مادية، حيوية مع أنها غير حية، هي مرآة
القراءة التي يُقيّم المرء نفسه من خلالها.
قريبٌ
من هذه الفكرة ما قالته إحدى شخصيات [مكتبة ساحة
الأعشاب]: "عندما نتحدث عن كتاب، فنحن لا نتحدث عما
قرأنا فحسب، بل عن أنفسنا كذلك." فما
تختار أن تقتبسه من كتاب، وما تستحضره من محاور آخر، وما تستشهد به وتمثّل عليه من
هنا وهناك، كلها أمارات تبيّن قدر فهمك، وما أثار اهتمامك، وما يوافق قناعاتك،
ومدى توظيفك للمقروء خارجَ إطار الكتاب الموضوع على الرف حينها بمعزلٍ عنك. بل
ومجرد النظر إلى عناوين مكتبتك يُنبئ عن شيءٍ ولو مُجمل عنك؛ لمَن تأمل.
ولو
أردتُ ضرب الأمثلة على بعض ما تُبيّنه مرآة القراءة لصاحبها، فانظر معي إلى:
العمق:
فعدد غير قليل من القراء بدؤوا رحلتهم إلى عالم القراءة عبر بوابة القصة، القصيرة
منها أو الطويلة، ثم يختلف قدر مُكثهم في هذه البوابة بين عاكفٍ في المدخل الجميل
حيث السرد الخيالي أو الواقعي للناس، وبين والجٍ إلى أعماق عالم القراءة المتنوع
في معارفه ومجالاته متجاوزًا بوابة القصص الآسِرة. فمتى انتقل من جاذبية القصة إلى
جادّة المعرفة فقد تعمّق، وفتح لنفسه بابًا من أبواب التخصص.
الوضوح:
وذلك من خلال ما يلحظه القارئ من زوال علامات الاستفهام السابقة حين يرجع إلى كتبٍ
سبق وقرأها، فيتحول استفهامه تعجبًا متمثلًا في سؤال: "ما الذي كان صعب
الفهم؟!" أي أن المقروءات الجديدة خدمت القديمة وأبانتها وأضافت إليها، فصار
الغامض واضحًا، والمعرفة مشفوعة بأختها، والعقل في مساره إذ يضم النظير إلى نظيره،
في أمارة بيّنة على النمو السليم والبناء القويم.
العطاء: إذ من الاحتمالات
المتوقعة أن تُكسِب القراءة بعض أصحابها جُرأةً على الكتابة؛ كي يستمر نسل
الكُتّاب ولا يموت التأليف! قد تبدأ الجرأة باعتياد النقل الحرفي للاقتباسات،
وربما يتبعها كتابة مراجعات متواضعة شديدة الاختزال والتداول في الكلمات، ثم تتطور
إلى كتابةٍ إبداعية مستقلة، ممتلئة بعبارات القارئ ونقده وإضافته، ومع الوقت يكون
له أسلوبه الذي يُعرف به. ويُحتمل أن تكون جرأة الكتابة المكتسبة موجهة لكتابات ذاتية أو موضوعية خارج سياق الكتاب. وليس الأمر حصرًا على الكتابة، إذ تثمر القراءة في آخرين
من أصحابها عطاءً كلاميًا، فيكون ذا لسانٍ مستقيم، أو رأي حكيم، فيُعطي مما نال
مشافهةً. فالمشترك هنا أن القراءة ربّت صاحبها على صورةٍ من صور العطاء.
الواقعية:
فرغم تنوّع قصص القراء في حبهم للقراءة لكن لعل معظمهم مروا بمحطات متشابهة:
يُلزمون أنفسهم على القراءة ابتداءً حتى يألفونها، أو يتدربّون على حساب كمّ الصفحات
وتقسيمها ثم يعتادون القراءة مهما طالت الأجزاء دونما حاجة لجدولة، أو ينتقلون من
الاهتمام بعدد الكتب إلى نوعيتها ومن كمّ الجديد إلى إعادة القديم المهم. إنهم في
الخلاصة يَنمون من صور الكَلَفة إلى الأُلفة، ومن المثالية إلى الواقعية ومن تقليد
الناس إلى الذوق الخاص، في الاختيار والمقدار والرأي وغير ذلك.
فهذه
أربعة معايير تُظهرها مرآة القراءة، وغيرها كثير.
وكما
أن المرآة المادية تبيّن الجمال والقبح، فكذلك القراءة تُنبئ القارئ عن جهله؛
فيختار جمال التواضع أو قُبح التعالم، وتُعرّفه بجودة فهمه؛ فيُبدي هو الإقرار
بالإشكال عليه، أو يُكابر فيه، أو ربما فتّق على نفسه أفق البحث والاستفسار. وهكذا
كلما قرأ تكشّفت له نفسه وأدركها، وعرف ما يجيد مما لا يجيد، وما تقدّم فيه وما
تأخر عنه.
أفترضُ
أن شيئًا من هذا النمو القرائي والكشف الذاتي هو ما حمل بعض أعيان الناس على قول
مقولات فخمة عن أثر القراءة، كقول مالكوم إكس: "لقد
غيّرت القراءة مجرى حياتي تغييرًا جذريًا" [دروب القراءة، رائد العيد] فلو نظر كل منا
إلى نفسه وقيمّها بما أكسبته إياه القراءة لعرف قدر تغيير القراءة لحياته.
Image by Freepik
تعليقات
إرسال تعليق