لفتات إكسيرية

 



لَفَتات إكْسِيرية

         قد يبدأ الإنسان منا شيئًا ولا يدري ما ينتهي إليه، ويدخل في هذا المنتجات والمشروعات، وكذا الكلمات -شفهيةً أو كتابيةً- والـمُؤلَفات، فما أكثر المقولات المحفوظة التي عمّت بخيرها أو طَمّت بشرها وربما لا يُعرف اليوم قائلها الأول!

أما المؤلفات فهي الـمَعنيّة بالقصد الأساس هنا، وذاك أني أنهيتُ قريبًا قراءة كتاب (الإكسير) من إعداد مجموعة من الباحثين، عَمَدوا إلى كتاب (مدارج السالكين) لابن القيم -رحمه الله- فهذّبوه، وجعلوا قَوامه 280 صفحة تقريبًا، بدلًا عن أربع مجلدات.

         وهدف الإكسير كما يَستبين ابتداءً من العَنونة الصغيرة في الغلاف (خلاصة أعمال القلوب من مدارج السالكين لابن القيم)، فالهدف سامٍ، ووسيلة التهذيب أصابَته وأجادَته.

ومن دلائل سُمو الهدف قول ابن تيمية -رحمه الله-: "أعمال القلوب -التي قد تُسمى الـمَقامات والأحوال-... من أصول الإيمان وقواعد الدين؛ مثل محبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين له والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له وما يَتبع ذلك... هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق -المأمورين في الأصل- باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على (ثلاث درجات) كما هم في أعمال الأبدان... ظالم لنفسه ومُقتصد وسابق بالخيرات" [مجموع الفتاوى 10/ 5-6].

         ولا أدلّ على إصابة الهدف وإجادته من إدراج بعض برامج القراءة ومسابقاتها لكتاب الإكسير في قوائمها، وربما على رأسها، فما الظن بأن يبتدِئ قارئٌ برنامجًا يُعينه على استدامةِ عادة القراءة مع هذا الموضوع المهمَ النبيل؟ وما الحال الـمُتوقع حينما تُلامس عبارات ابن القيم القلبَ الرهيف؟

ورغم صلتي القديمة والمستمرة بالمدارج؛ إلا أنني خرجتُ من الإكسير بِلَفَتات، خارجة عن مُراد الكتاب، أُجمِلها في اثنتَين:

الأولى: العمل الـمُبارك يُولِّد أعمالًا أخرى، فإن كتابًا بحجم المدارج وموضوعِه الأم -الذي حقيقته شرح كتاب آخر، مع التعليق النقدي لما خالف الاعتقاد الصحيح-؛ لا يكون في الظن تداوله بين عموم القُرّاء والمبتدئين، فما يصبر على الكمّ الكبير مُبتدِئ، ولا يعي الاصطلاح الخاص عامِيّ. فلّما صارت المدارج إكسيرًا وصَلَت الفائدة شرائح أخرى من الناس، فانتفعوا به انتفاعًا عظيمًا، لَمَسوه في حياة قلوبهم، ودفء عباداتهم، مُستشعرين في ذلك مِنّة الله عليهم وتوفيقه لهم.

كل هذا بدأ بعد توفيق الله بفكرة استخراج مشروعٍ من مشروع، وتعاضد فردٍ مع فرد، مع هدفٍ واضحٍ مَأمول، وسَيرِ عملٍ مُقنّن مَخطوط، غير مُعتمد على مدة مجهولة، ولا خطوات عائمة! وهكذا تُولد المشاريع. فماذا لو صنع أصحاب الرسائل العلمية ذاتَ الصنيع مع أبحاثهم الضِّخام؟ فحوّلوا -مثلًا- أجزاءً منها إلى مقالات، وأخرى إلى بودكاستات؟ فأوصلوا بذلك النفع إلى عموم الناس بدل انحصاره على خصوصهم.

الثانية: قد يُنجز المرء مع الجماعة ما ظلّ يُؤجل إنجازه بمفرده، فللوهلة الأولى قد يسترهب المرءُ القيام على الشيء وحده، ولو نَهَضت به الهِمّة لربما لم يجد مَن يحثّه على عملٍ دَؤوب، في الوقت الذي يَؤُزُّه الشيطان على التوقف والنُّكوص. كيف لا والانضمام لِـجَمع؛ تُوَزّع على أفرادهم المهام، وتُحدد فيه بدقّة مواعيد الإتمام؟

لا تعني هذه العبرة بحال أن المشاريع لابد جماعية، بل هي سبيلٌ من سُبل الإنجاز، قد تُناسب بعض المهام دون بعض، وإنما القصد الحث على سُلوكها حين توفر الفريق المناسب والموضوع الملائم، فالذي يظهر للقارئ أن الإكسير حصيلة لذلك.

ثم في أي عملٍ مَشروعٍ يفعله المسلم، فردي أو جماعي، مُخطط له أو عشوائي، يتأكد عليه أن يحرص على عملٍ قلبي، هو الإخلاص لله تعالى، فإن الأمر كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "إنَّك لن تُخلَّفَ فتعملَ عملًا تبتغي به وجه الله إلَّا ازددتَ به درجةً ورفعة" [أخرجه البخاري 1295 ومسلم 1628].

فما أهنأ مَن رَاضَ قلبَه على تحرّي الإخلاص في كل شأنه، وضمّ معه توكلًا على الله في كل سَيرِه، وشكرًا له على تيسير خَطوِه، مع إخباتٍ وخشوع واستحضار لـمِنّة الله وتوفيقه، وغيرها من أعمال القلوب التي لا تُوصف بالعبارة. ونسأل الله من فضله.

 

جُمانَة بنت ثَرْوَت كُتْبـي

   2 / 3 / 1447هـ



 

Image by Freepik

تعليقات