عبرة من بغتة!

عِبرةٌ من (بغتة)!

        حين أنهيتُ قراءة كتاب (بغتة) الذي يحكي قصة حقيقية لرئيسة سابقة في منظمة الأبوة المخطط لها، والمترجَم من مركز باحثات لقضايا المرأة؛ فكّرت أن أتحرى عن المقطع المترجم الذي شاهدتُه قبل سنوات على قناة يوتيوبية تُترجم مقابلات واعترافات لغربيين، يستبين من خلالها نمط حياتهم، وشدة انحرافهم، فيُشكّل كل مقطع ردًا على مَن يريد لحياتنا أن تتفرنج أو تتغرّب مثلهم. وصدَق تحرّيّ؛ فقد كان ذلك المقطع الصادم لتلك المرأة التي تتحدث عن الإجهاض في أمريكا، هي نفس المؤلفة التي قرأتُ قصتها في الكتاب الذي بين يدي.

        ماذا نعرف عن الإجهاض؟ مباشرةً يتبادر لأذهاننا كمسلمين ومسلمات أنه سقط الحَمل؛ والذي يحزن عليه الأهل، ويُواسَى عليه الوالدَان، وقد نعرف إجمالًا أنه يحدث باختيار الأم في الدول الغربية إن لم ترغب بالجنين لأي سبب كان، بأن تقرر ذلك فقط! لكن ما قرأتُه في المقطع المترجَم قبل سنوات ما يزال يُثير مكامن الدمع، ويبعث على الاستياء. وترى ذلك أيضًا في تعليقات الناس المندهشة مما ذُكر مما عرفوه أولَ مرة! وتقرأ وصفهم لقسوة قلوب الغربيين وبؤس انسياقهم وراء الشهوات!

        من الكتاب يمكنني الاقتصار على نقل المشهد الذي رأته المؤلفة والذي غّير عملها وحياتها، سأنقله حرفيًا من الفصل الأول، وحتى ما بين -الشرطتين- من كلامها، وأختصر بالنقاط الثلاث...:

((قال الطبيب وهو ينظر إلي: "حسنًا، ما عليكِ سوى تثبيت المسبار في مكانه أثناء العملية لأتمكن من رؤية ما أفعله". برودة غرفة الفحص أشعرتني بالبرد. كانت عيناي ما تزالا متعلقتان بصورة ذاك الطفل التامّ الخلقة حينما ظهرت صورة جديدة على الشاشة. أُدخلت الكانيولا -أداة على شكل قصبة رقيقة متصلة بنهاية أنبوب الشفط- في الرحم، وقُرِّبت من جنب الجنين... في البداية، لم يَبدُ أن الطفل مُنتبه لوجود الكانيولا التي حبست جنبه بلطف. شعرتُ بارتياح عابر. قلتُ في نفسي: "لابد أن الجنين لا يُحس بالألم. الأنسجة الجنينية لا تشعر بشيء عند إزالتها. طالما لقّنتني منظمة الأبوة المخطط لها ذلك، وطمأنتُ به عددًا لا حصر له من النساء..."... الحركة التالية التي ظهرت على الشاشة كانت اختلاجة مفاجئة للقدم الدقيق، وبدأ بعدها الركل كما لو كان يحاول الابتعاد عن المجس الغازي. ومع ضغط الكانيولا، بدأ الجنين يُكافح ليدور وينثني مُبتعدًا عنها. بدا لي بجلاء أن الجنين أحس بالكانيولا وانزعج من وجودها... باغتني الصوت المنبعث من ناحية الطبيب. قال للممرضة بمرح: "خلصيني يا سكوتي"... كان يطلب منها تشغيل المشفطة... دهمتني رغبة جامحة في الصراخ أن توقفوا. رغبة ملحة في تحذير المرأة "انظري ما يفعلون بطفلك! أفيقي! أسرعي! أوقفيهم!" جالت هذه الكلمات بخاطري... أنا واحدة منهم، أنا شريكتهم... ارتد بصري للشاشة مرة أخرى. كان الطبيب يُدير الكانيولا، ورأيتها وهي تثني الجنين بحركة عنيفة. بدا لوهلة كما لو كان الجنين ليفة تُبرم وتُعصر وتُضغط. وبعدها هُرس الجسد الدقيق وأخذ يختفي داخل الكانيولا أمام ناظري. آخر شيء رأيته كان هو العمود الفقري الصغير المكتمل الخلقة يُشفط داخل الأنبوب. ثم انتهى كل شيء.))([1])

        هذا هو الحدث الذي جعل المؤلفة تكتب قصتها، ساردةً مسار تغيير حياتها من بعده.

أما المقطع فتذكر ما في الكتاب باختصار، مع بعض الإضافات المهمة التي خلاصتها: أن الإجهاض استغلال مادّي لحاجة تلك النساء، والمختلفات بالمناسبة، بين مرتكبات للفاحشة غير راغبات بتحمّل المسؤولية، وبين متزوجات لا يرغبن بالمزيد من الأطفال للفقر ونحوه، وبين مُكرَهة غُلب عليها، أي أن الإجهاض اختيارهن أو اختيار محيطهن. وهذا التفصيل في التنوعّ هو من الكتاب، وفيه تفاصيل أُخر. لكن المدهش في الكتاب أنه يجعلك ترى العاقبة الحسنة: لتآزر الناس ووقوفهم ضد الباطل، والأثر بعيد المدى للجهود المقترنة بالصبر.

كما يجعلك تعي وجود فئة من الأمريكيين موسومين بالمحافظة ويحاولون التشبث بإيمانهم المتمثّل في النصرانية، التي هي على انحرافها أفضل -في بعض الجوانب- من جناية بعض الأفكار البشرية المحضة على الناس، ومنها ما تسبب في السماح بالإجهاض على حاله هناك، فهو فرعٌ عن فكرة نِسوية تقول: للمرأة حق حرية التصرف في جسدها، وما في بطنها من جسدها، فلها أن تقرر إزالته -أي إزهاق روحه- لو أرادت، دونما حاجة لتبرير لأحد -بغض النظر عن عدد أسابيع الحمل المسموح بها فهذه قصة أخرى-.

والصلة بين الفكر النسوي والإجهاض ليست استنتاجًا مني ولا ادّعاء أدّعيه، بل من أمثلة مَن ذكر ذلك من الغربيين أنفسهم، بل ومن النساء: إيفا هيرمان الألمانية في كتابٍ لها ترجمه مركز دلائل إلى العربية -تحدثتُ عنه سابقًا في مقال: لماذا نحتاج لمبدأ حواء؟([2])- إذ تقول: "ولا نبالغ في تقدير مدى خطورة نضال الحركة النسائية بشدة من أجل تقنين الإجهاض؛ لأنه لا يتعلق فقط بالإفلات من العقاب على الإجهاض، إنه يتعلق أيضًا بالتقليل من خطورته، كما لو كان مثل زيارة لطبيب الأسنان... لم يكن فقط التعامل سلبيًا وعدائيًا مع الذي لم يُولد بعد، بل كان تعاملًا قليل الحساسية معنا نحن النساء. الطفل الذي لم يُولد بعد جزء منا؟ ألا تُدمَّر قطعة منا أثناء الإجهاض"! وتقول: "يعتبر الاستخفاف بالإجهاض أحد الآثار الجانبية الأيديولوجية للحركة النسائية... الحركة النسائية التي احتفلت بالإجهاض كدليل على الحرية، بالكاد تسمح بأي اختلافات"!([3]) 

        وإذا فهمتَ كلامي جيدًا يمكنك ربطه بتأييد النِسويين والنِسويات للمرشحة السابقة للرئاسة في الانتخابات الأمريكية: كامالا هاريس، من اليسار الغربي، الذي يرفض النَّزَعَات المحافِظة باختصار([4]).

على كلٍ كان المقطع المذكور سببًا في إضعاف تأثري بالكتاب -إذ صُدمت مُسبقًا بالمقطع-، مع أني لم أعرف أنهما لذات الشخص إلا بعد النهاية، ورغم ذلك كان في الكتاب تفاصيل أخرى تُعين المهتم بقضايا المرأة أو بحال الفكر الغربي على الفهم. وفيه من التفاصيل: ذكر لسياق انتقال مؤلفة الكتاب من الاتجاه الذي يرى حق المرأة في اختيار إبقاء الجنين أو إسقاطه؛ إلى الاتجاه الذي يرى حق الجنين في الحياة. ومن الجدير بالذكر والإشادة قيام المترجِمة بالتنويه على أمور لا تتفق مع ديننا الحنيف في مقدمتها؛ ليتذكرها القارئ ويستصحبها معه أثناء القراءة، كما أبرَزت عدة نقاط تُشكّل دروسًا عامة مستفادة، وإن كان في بعضها إجمالٌ مُخلّ برأيي.

في ماذا ستفيدك المعرفة بوضع العالم الغربي البائس مع إجهاض الأجنة؟ يفيدك في أمرين:

الأول منهما هو أن تعي أن "منظمة الأمم المتحدة تشجع على الإجهاض في اتفاقياتها ومؤتمراتها إذ تعتبر أن الإجهاض حق للمرأة... وكذلك تعتبر أن منع الإجهاض فيه تمييز ضد النساء وهدر لحقّهن في الحياة والصحة. فمنع الإجهاض يعني شيئًا واحدًا هو دفع النساء إلى الإجهاض السري، أي تعريض أنفسهن إلى خطري المرض والموت"([5])، أي أنّ أيّ بلدةٍ تحتكم إلى تلك الاتفاقيات الأممية دون تحفّظ، هي غالبًا تُقرّ بهذا الحق كما يسمونه، فليس الأمر خاصًا بأمريكا ولا ألمانيا!

        الأمر الثاني الذي يفيدك: أزعم أن مَن عرف هذه الوحشية وهذا البؤس؛ يزدادُ يقينُه بعظمة الإسلام وشريعته، ويحمد الله على نعمة الدين والعقل، فالخلق هنالك بين مَرضى ومضطربِين في الجوانب الفكرية والأخلاقية؛ إلا مَن رحمه الله ببقايا الملّة الحق التي يتبعها، أو ببقايا العقل السليم والفطرة السويّة، أما البقية... فالله المستعان في وصف حالهم، وبيان عجيب مقالهم، وتتبع مآلِهم! ورحِم الله ابن القيم إذ قال في سياق كلامه عن دينٍ من الأديان الباطلة: "ولولا أن الله -سبحانه- يحكي عن المشركين والكفار أقوالًا أسخف من هذا وأبطل؛ لاستحيا العاقل من حكاية مثل هذا، ولكنّ الله -سبحانه- سنّ لنا حكاية أقوالِ أعدائه. وفي ذلك من قوة الإيمان، وظهور جلالته، ومعرفة قدره، وتمام نعمة الله -تعالى- على أهله به، ومعرفة قدْر خذلانه للعبد، وإلى أي شيء يُصيّره الخذلان، حتى يصير ضُحكةً لكل عاقل"([6]).

        وإنك لتُدهش من التفصيل والإنصاف والعدل الذي في كلام أهل العلم في الإسلام عن حكم هذه العملية([7])، فسبحان من أنعم علينا وهدانا بالإسلام، وحفظ لكل ذي حقٍّ حقّه. وليس هذا المقام لبسط ذلك، ولكن لا يمنعني هذا من التذكير بآياتٍ عجيبة عظيمة، تدبّرها بعد كل ما ذكرتُه لك: قال الله عز وجل في سورة الأنعام: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}. وقال سبحانه في سورة الإسراء: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ} فسبحان الله العظيم!

اللهم كما أنعمتَ علينا بالإسلام؛ فأكرمنا بالثبات عليه إلى يوم نلقاك، وجنّبنا اللهم سُبل المغضوب عليهم والضالّين، واجعلنا اللهم دعاة خيرٍ لخلقك؛ تستنقذ بنا مَن قدّرت لهم النجاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

جمانة بنت ثروت كتبـي

   1 / 6 / 1446هــ



 



([1]) بغتة، آبي جونسون، ترجمة/ أسماء ساتي، ص(20-22). مركز باحثات، الرياض – المملكة العربية السعودية، ط1/ 1445هـ.

([3]) المرأة الجديدة – دراسة لكتاب (مبدأ حواء)، ترجمة/ مشيرة الأرناؤطي، ص(194) و (195). مركز دلائل، الرياض – المملكة العربية السعودية، ط1/ 1442هـ.

([4]) يُنظر كمثال هذا المقال على الموقع الأجنبي (Abortion, Every Day = الإجهاض كل يوم): https://jessica.substack.com/p/kamala-harris-vote-election-day  

 وفي صفحة التعريف بالموقع قالوا: "(الإجهاض، كل يوم) هي نشرة إخبارية يومية شاملة مخصصة لحقوق الإجهاض والمجتمع النسوي الذي يدعمها".

([5]) معجم المصطلحات الدولية حول المرأة والأسرة، د. نهى القاطرجي، ص(33). مركز باحثات، الرياض – المملكة العربية السعودية، ط1/ 1437هـ. بتصرف يسير واختصار.

([6]) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، تحقيق/ علي الأثري، (2/989). دار ابن الجوزي، الدمام – المملكة العربية السعودية، ط2/ 1432هـ.

([7]) مثال (مختصر) لفتوى الشيخ ابن باز -رحمه الله- في ذلك: https://binbaz.org.sa/fatwas/8598/%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%B6

تعليقات