نبوة العاقب

 


نُبوة العاقِب

         العلم نورٌ لأصحابه العاملين به دائمًا وأبدًا، ثم هو كذلك لـمَن تلقّاه بقدر ما وَعَاه، ولكن معرفة العلم الصحيح في واقعنا المعاصر أشد ضرورة لتبديد الجهل الذي تُسهِم ببثّه وسائل الإعلام والتواصل؛ بما فيهما من وسائط وقصص، ونُصوصَ وشُبَه، وغير ذلك مما يُخَلِّط على عموم الناس أُسسَهم، ويُلبِّس عليهم دينَهم.

وفي ظل إتاحة كل شيء، يستطيع المرء أن يصل لمختلف الأعمال المقروءة والمرئية، التي تنال مقام نبوة النبيين أجمعين همزًا ولمزًا، فتُحدِث في الشاب تأثيرًا بحسب الفجوة المتاحة في علمه وفكره، مما يُؤكد على الغيورين والـمُربّين أن يعتنوا بالحَصانة العَقدية، وأن يُذكّروا بمقام النبوة وصحيح أخبارها؛ حتى يُبَوِّئُوا النبيين في قلوب الناشئة أعلى الدرجات، وما يكفيهم ويدرَءُ عنهم زَيف الإعلام المنحرف والشبهات الخدّاعات.

         وأولى النبيين بالتذكير بفضلِهِ، والتأكيد على رسوخ قدرِهِ، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال عن نفسه: "أنا مُحَمَّدٌ، وأنا أحْمَدُ، وأنا الماحِي، الذي يُمْحَى بيَ الكُفْرُ، وأنا الحاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ علَى عَقِبِي، وأنا العاقِبُ والْعاقِبُ الذي ليسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ " [أخرجه البخاري (4896) ومسلم (2354) واللفظ له] فمن أسمائه العاقِب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جاء عَقِب الأنبياء كلهم فكان خاتَمَهم، وهذا بمفرده عقيدة تحمي من مستجدات كاذبة، ونبوءات مخترعة.

         ومما نحتاج أن نعرفه اليوم أكثر مما سبق من الأزمنة، عن نبوة العاقب صلى الله عليه وسلم:

1- وجود مُنكري النبوة ليس انفرادًا مُعاصرًا بل له وُجود مُتقدِّم:

إذ ذُكرت أصول اعتراضات المنكرين في القرآن الكريم نفسه؛ ما كان منها صادرًا عن مُشركي العرب أو اليهود والنصارى، وتولّى الله تعالى الرد عليها، وعلى كل مَن سيكرر أطروحاتهم التي يدّعون فيها العقل والفكر، وسخّر سبحانه من هذه الأمة مَن يتولى الدفاع عن كتابه، ويُجيب عما استجد من شبهات أعدائه، فقام من أهل العلم مَن يتتبع شبهات المستشرقين ليدحضها، وتصدّى باحثون للنظر في اتهامات المعاصرين ليُفككها ويُبيّن تناقضها، ويُرجعها إلى ذات الشبهات التي أثارها المعترضون زمن النبوة، وإن ألبسها المعاصرون ثوب البحث وتظاهروا بالدرس.

2- تنوّع دلائل النبوة وأن هذا من رحمة الله تعالى بخلقه:

         فالله سبحانه وتعالى قد أيدّ أنبياءَه بالبيّنات؛ للدلالة على صدقهم وإثبات بعثهم، وتُسمى عند علماء بدلائل النبوة، وأعلامها، ومعجزاتها، وسمّاها القرآن الكريم بالأدق والأشمل والأكمل: آيات وبراهين وبيّنات.

وقد كان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها قدرٌ وافرٌ ومتنوّع، أبرزها: سمات شخصية، خُلُقية وخِلقِية، يعيها المتأمل الصادق في السيرة النبوية، ومنها أمور نوعية؛ تفيد أن ما جاء به في نفسه مُشابه ومُتسق في أصوله مع ما جاءت به بقيت الرسالات النبوية، ومنها المعجزات التي تخرج عن العادات الكونية، فتُبهر مَن حضرها، وتُدهش مَن بلغه خبرها.

         وبراهين نبوته أكثر من هذا، ومجرّد تنوّعها دالٌ على عظيم ما اتصف الله عز وجل به من الحكمة والرحمة؛ إذ البشر مُتنوّعون مُتفاوتون، منهم مَن تَعنيه السمات الشخصية وبها آمنت خديجة رضي الله عنها، وبها عَرف هرقل الحق وإن لم يتبعه. ومن الخلق مَن يهتم بالأمور النوعية، فيتفكّر في التعاليم النبوية؛ وما فيها من الحق والهدى بنفسه، مثلما آمن عن طريقها: النجاشي وورقة بن نوفل.

         أما خوارق العادات التي يُؤيد الله بها أنبياءَه مما سُمي معجزات؛ فلقد كان له صلى الله عليه وسلم كذلك نصيبٌ منها، كما الإسراء والمعراج، وأعظمها إعجازًا باقيًا إلى قيام الساعة هو القرآن الكريم، فقد أعجز الخَلْق عن الإتيان بمثلِهِ أو بسورةٍ منه، وما المحاولات الـمُدوّنة قديمًا وحديثًا إلا جهلٌ محض، يظن أصحابها أن الإتيان بعباراتٍ مَسجوعة هو الإتيان المقصود! خلافًا لأهل العلم بالعربية المحضة والعالِمين بها؛ فهم يُقرّون بالاستحالة، عكس الأَوْباشِ والعَالة!

3- الإطلالة على شيء من تميّز القرآن الكريم كآية على النبوة:

والذين يدخل الإيمان قلوبَهم عن طريقه لا يُعلم عددهم، ولكن يُعرف المدخل إليهم، وهو ما يسميه أهل العلم بأوجه إعجاز القرآن الكريم؛ الـمُعبِّرة عن كل مَزيةٍ في نظم القرآن أو معانيه، مع كونه خارج قدرة المخلوق.

فكل مُفردة قرآنية وكل تركيبٍ لُغَوي فيه؛ بَلَغ من الكمال مُنتهاه في الفصاحة والبلاغة والبيان، ما لا يقوم غيره مَقامه البته! ومعانيه كذلك بما فيها من تشريعات هَادية، وإشاراتٍ عِلمية باهرة، وبما فيها من أخبارٍ غيبية، ماضِية وحاضِرة ومُستقبلية!

فأنّى توّجه الناظر الـمُنصف فيه؛ وَجَدَه خارجًا عما يعرف من النَّظم، شِعره ونثره، ووجد الفطرة والعدل والرشاد في مطلوباته، أمره ونهيه، وعثر على الصدق والاتساق في عقائده وأخباره. 

4- عموم نبوته صلى الله عليه وسلم وختمها إلى قيام الساعة:

         مَن آمن بالقرآن الكريم وحيًا محفوظًا من الله تعالى؛ فإّن من مصداق إيمانه أنْ ينعقدَ قلبُه يقينًا على ختم النبوة برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]. والله تعالى من كمال علمه وحكمته، وتمام عدله ورحمته؛ جعل رسالة النبي الخاتم عامة تشمل جميع الناس، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأحمرهم وأسودهم، كما قال عزّ وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28].

وعليه فكل مُمثِل للقَبول والحياد يدّعي الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لكن يخصّها بالعرب وحدهم؛ فكلامه باطلٌ مردود، فالقرآن آيةُ نبوتِه قد أبَان عن عُموم رسالتِه. وكل مدّعٍ للنبوة مِن بعده؛ فكلامه باطلٌ مَكذوب، بل هو دجّالٌ من الدجاجلة، كذّاب من الكذبة؛ ولو ادّعى الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم وكتابه؛ فلو صدق إيمانُه بهما لما كذّب بختم النبوة. والسيرة النبوية الثابتة نفسها تردّ على هؤلاء الـمُدّعين وأولئك الـمُنكرين.

والعجيب في الـمُنكرين لنبوته عليه الصلاة والسلام؛ أنّ براهين نبوته قد ثبتَ منها ما هو أظهر من دلائل نبوة غيره، ممن يُصدّق بهم الـمُنكِر! كمًّا ونوعًا، طريقًا ومعنًى! فهذا كحال اليهود والنصارى.

وأعجب منهم الـمُدّعون، فهم على مُناقضتهم لنصوص ختم النبوة، ونصوص حفظ الدين وكمال الشريعة؛ مع ذلك هم بأنفسهم وكذبهم مِصداق انتهاء النبوة ودليل كونهم كَذَبة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولا تقوم الساعة حتى يُبعث دجّالون كذّابون قريبًا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله" [أخرجه البخاري (3609) ومسلم (157) باختلافٍ يسير] وهذا كحالِ الأسود العنسي ومُسيلمة قديمًا، وحالِ رأس البابية وأب البهائية وغلام القاديانية حديثًا، ومَن آمن بهم وتابعهم، ومَن صنع مثل صَنيعهم مِن بعدهم.

فسبحان مَن جمع في كتابه الكريم أمَارات الإعجاز وأوجُهها، وأقام نُبوة محمد وحُجَجها، وأبطل شبهات خصومِه المباشرين وما شابهها! ودُونك كتاب (نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في ضوء الكتاب والسنة)([1])؛ فإنّ فحوى هذا المقال منه، وإن لم تخلُ المكتبة مِن سواه، لكنه جمعَ بين سهولة العبارة، ويُسر الكمّ؛ ما يكون في مجموعه نفعٌ عظيم.

جُمانَة بنت ثَروَت كُتْبـي

   29 / 12 / 1446هـ




([1]) من مطبوعات دار طيبة الخضراء، بمكة، 1443هـ، تأليف/ د. عائشة بنت علي رُوزي.



Image by Freepik




تعليقات