حلُّ مَن أعرَض

 


حلُّ مَن أعرَض

         من المتقرر أن الإصرار على الذنب أفدحُ جُرمًا من الذنب وحده، فللإصرار دلالات، منها: اعتياده، والذي قد يعني عند أناس أن الذنب صار له عادةً يصعب عليه تركها، وقد يعني الاعتياد خروج رؤية المذنب لفعله من نطاق الذنب إلى نطاق الفعل العادي المباح!!

         وههنا إطلالةٌ -يسيرة- على شيءٍ من شؤم المعصية، وتَغبيرها بياضَ الثياب لا محالة؛ ما لم يتداركها صاحبها بالتتبع والإزالة. والداعي الذي يحثّ على هذا الموضوع في العموم؛ كثرة مُواقَعتِنا للذنوب ومُلابَستِها، والداعي إليه الآن بالخصوص؛ إدراك مواسم الطاعات ونيل فضائلها، فإن أمثال رمضان وطاعاتِه الواجبة والمندوبة لا يستطيع المرء الانخراط فيها -بعد توفيق الله وتقديره-؛ إلا مع وجود قَدْرٍ من حُسن المواجهة لذنبه، وشيءٍ من الوعي بأثر دَرنه.

بل حتى مفهوم اعتياد المعصية هو إعادة صياغة لفكرة أن المعصية تُولّد معصية، يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الداء والدواء: "المعاصي تزرع أمثالها ويُولّد بعضها بعضًا حتى يعزّ على العبد مفارقتها والخروج منها... حتى تصير... المعاصي هيئاتٍ راسخة وصفاتٍ لازمة ومَلَكَاتٍ ثابتة... ولو عطّل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره، وأعيَت عليه مذاهبه، حتى يُعاودها"([1]). وبعد كثرة التوليد والمعاودة ينتج عن ذلك عدم الحرج منها، فلربما قادته إلى التفاخر بها، فحقيقة هذا أنّ قلبَه لم يعُد يستقبحها، فصارت له عادة، إلى أن تصير له مَفخرة([2])! وهذا مما لا يُنكره متأملٌ معاصر، والله المستعان.

وتَوسّع -رحمه الله- في تتبّع عقوبات الذنوب، وهي ليست مجرد العقوبات الشرعية – التي في الدنيا أو الآخرة- بل عقوباتٍ قدرية لا يُدرِكها المرء، ومما ذَكره من المدهشات الموقِظات للقلب من العقوبات:

* "حرمان الطاعة. فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أنه يصد عن طاعة تكون بدله، ويقطع طريق طاعة أخرى، فينقطع عليه طريق ثالثة، ثم رابعة، وهلم جرا. فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة... وهذا كرجل أكل أكلةً أوجبت له مرضةً طويلةً منعته من عدة أكلات أطيب منها" ص136.

* "أنها تُضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه، أو تُوقفه وتقطعه عن السير... هذا إن لم تردّه عن وجهته إلى ورائه!... والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيّره... فالذنب إما أن يُميت القلب، أو يُمرضه مرضًا مَخوفًا، أو يُضعف قوته، ولابد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم. وهي: (الهم والـحَزن، والعجز والكسل، والبُخل والـجُبن، وضَلع الدَّين، وغلبة الرجال) [أخرجه البخاري ومسلم]" ص178.

* "أنها تُعمي القلب، فإن لم تُعمه أضعفت بصيرته... فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الهدى، وقوته على تنفيذه في نفسه وفي غيره، بحسب ضعف بصيرته وقوته. فإن الكمال الإنساني مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثاره عليه... المعاصي والذنوب تُعمي بصيرة القلب فلا يُدرك الحق كما ينبغي، وتُضعف قوته وعزيمته فلا يصبر عليه. بل قد تتوارد على القلب حتى ينعكس إدراكه، كما ينعكس سيره، فيُدرك الباطل حقًا، والحق باطلًا، والمعروف مُنكرًا، والمنكر معروفًا. فينتكس في سيره" ص220.

* "أنها تُنسي العبد نفسَه... إنساؤه لحظوظها العالية وأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وما تكمُل به، يُنسيه ذلك جميعه، فلا يخطره بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همته فيرغب فيه، فإنه لا يمر بباله حتى يقصده ويُؤثِره. وأيضًا فيُنسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها. وأيضًا يُنسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها، فلا يخطر بقلبه مُداواتها، ولا السعي في إزالة عِللها... فهو مريض مُثخن بالمرض، ومرضه مُترامٍ به إلى التَّلف، ولا يشعر بمرضه، ولا يخطر بباله مُداواته. وهذا من أعظم العقوبات" ص243.

         فهذه الآثار المهيبة التي ذكرها؛ غيضٌ من فيض، فيخلُص الناظر فيها إلى حقيقة ظُلم الإنسان لنفسه حينما يرتكب الذنب، فكيف بارتكابه الذنب بعد الذنب؟

         فتَسطُع من هنا الحاجة إلى النموذج الذي يواجه الذنب ولا ينخرط فيه ولا يغرق، وقد قال الله تعالى في شأن بعض خِصال الـمُتقين، الذين أُعدّت لهم جنات النعيم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:35]، فالمتقي ليس بمعصوم من الوقوع في الذنوب -كبُرت أو صغُرت-، فهو من جُملة البشر الذين قال صلى الله عليه وسلم عنهم: (كلُّ بَني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوّابون) [أخرجه الترمذي وابن ماجه، وحسّنه الألباني]، ولكن المتقي حين يقع في الزلل؛ يُسارع بذكر ربه، فيفيق وينتبّه لحالِه، ويُبادر للاستغفار من ذنبه، فيدفعه ذِكرُ عظمةِ الله تعالى، وذِكرُ شدّة عقابِه، وسَعة رحمتِه، إلى التوبة([3]).

وعن علاقة الاستغفار بذكر الله وتعظيمه في الآية السابقة، يقول الشيخ السَّعدي -رحمه الله-: "جعلَ الاستغفار ناشئًا عن الذكر؛ فدلّ ذلك على أن الذكر لله هو الأصل الجامع الذي يتصف به المؤمن الكامل؛ فيصير الذكر صفة لقلبه، فيفعل لذلك المأمورات ويترك المنهيات؛ ناشئًا عن تعظيم الله تعالى وذكره"([4]). أي أنّ الذاكر لله تعالى وما يتصف به من صفات الجلال والجمال قريبٌ من سبيل المتقين، لعله يُوشُك أن يصل إليهم؛ إذ يدفعه ذكرُ الله تعالى وتعظيمُه إلى إِتباع ذنوبه بالاستغفار، وهو ما يُقلل شيئًا من أثر المعصية عليه، ويَستبقي فيه -بفضل الله- سيرَ القلب إليه، فلا يُحرم من الطاعة، ولا يُعرِض عن الدين.

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "فالإنسان كلما عصى الله ابتعد عن قَبول الوحي والشريعة، ولهذا قال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49]... فإذا رأيتَ من نفسك إعراضًا عن شيءٍ من دين الله أو رأيتَ إعراضًا عن كتاب الله عز وجل... فإنه يجب عليك أن تعالج نفسك، واعلم أن سبب هذا الإعراض هو المعاصي، وأن هناك ذنبًا انبنى عليه هذا الإعراض، والآية صريحة في ذلك... فاستغفر الله للنتيجة والسبب. وعلى هذا فمن وجد في نفسه إعراضًا عن طاعات كان يفعلها فليكثر من الاستغفار"([5]).

فمتى وجد أحدُنا من نفسِه نشوزًا أو إعراضًا عن مواسم الخير والطاعة؛ فقد علِمَ دَاءَهُ ودواءَه، فلا ينسَق إلى الوَحل، ولا ينحدر في المنحدر، فإن خطوة العلاج الأولى في الاستغفار، مع استحضار عقوبات ذنوبه وما لها من آثار. ولنحذر منذ الآن من الغفلة بترك الاستغفار بعد إدراك قيمته، فإن من عواقب الذنوب "سلبُ الهدى والعلم النافع"([6])، وما الهدى والعلم النافع إلا إِتبَاعُ العلم بالعمل؟

فنستغفرُ الله العظيمَ الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم ونتوب إليه([7])، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

جمانة بنت ثروت كتبي

 20 / 9 / 1446هـ



([1]) الداء والدواء، ص(139). ط4/ عطاءات العلم.

([2]) انظر: المصدر السابق، ص(141).

([3]) انظر: تفسير القرآن الكريم - سورة آل عمران، للشيخ ابن عثيمين، (2/ 187-189)، ط3/ دار ابن الجوزي. وشرح رياض الصالحين، له أيضًا، (2/ 14)، ط1425هـ/ مدار الوطن للنشر.

([4]) المواهب الربانية من الآيات القرآنية، ص(17-18). ط1/ مركز تدبر للدراسات والاستشارات.

([5]) تفسير القرآن الكريم - سورة المائدة، (1/ 482-483).

([6]) قال ابن تيمية -رحمه الله-: "واللهُ سبحانه جعلَ مما يُعاقب به الناس على الذنوب سلبُ الهدى والعلم النافع" مجموع الفتاوى، (14/ 152) وما بعدها. ط1/ ورثة الشيخ عبدالرحمن بن قاسم.

([7]) قال صلى الله عليه وسلم: "مَن قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوب إليه، غُفر له وإن كان فرّ من الزحف" [أخرجه أبو داود والترمذي، وصحّحه الألباني].

Image by Freepik



تعليقات

  1. رضي الله عنك استاذة
    نفعنا الله بعلمك

    ردحذف
    الردود
    1. ورضي عنكِ يا حبيبة، أسأل الله لي ولك العلم النافع والعمل الصالح، وأن ينفعنا وينفع بنا أجمعين.

      حذف
  2. جزاكم الله خيرا أستاذتنا الفاضله ونفع بكم🌺.
    فعلا ؛ وللفائدة☁️🌧️
    وكثير ممن يفعل شيء مكروه أو محرم يقول فلان يفعل كلا يقلد الاخر نسأل الله السلامة والعافية فنذكر بقول الله تعالى بعد أن عرفت طريق الحق والهدى واتبعته وتبت من ذنبك
    ((: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))

    ردحذف

إرسال تعليق