عَينٌ فقدت قُرّة
بين الليلة السعيدة والليلة الحزينة؛
نهارٌ واحد يفصلُ بينهما! بين ليلة الأنس والدفء وليلة الكسر والتأوّه؛ ساعات
معدودات! كانت ليلة الأمس هي السعيدة بالنسبة للقطة التي أسمع صوتها بشكل شبه يومي
من مكان كتابتي لبحثي، إذ يتسلل إليّ صوتها مع هُريراتِها عبر النافذة. أما الليلة
فلا أسمع إلا نواحها، بعد أن قَضَت قطط أخرى على كل صِغارها... لم تعرف القطة الأم
أن ليلة الأمس كانت آخر ليلةٍ تلتحفُ فيها بدفء سَنانيرها، ولم تعِ أنّ النهار
الذي مَضت ساعاتُه حديثًا؛ كان آخر عهدها بإرضاعهم واللعب معهم!
مُذ سمعتُ مُواءَها الجديد المتكرر
-كأنما تَبكيهم- لم أستطع التركيز في شأني، إلى أن قررتُ التوقف عن محاولة الجلوس
على بحثي، وأنشغل بوردي، فبدأتُ سورة القصص، ومررتُ بــــ:
-
وصفِ الله لفعل
فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ...} [٤]،
فكان من جُرمه تذبيح أبناء أعدائه.
-
وقول آسية رضي
الله عنها له؛ تُقنعه بإبقاء موسى عليه السلام: {وَقَالَتِ
امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ...} [٩]،
فوصفت الابن الذي تُريد بِقُرّة العين.
-
ثم بعدها مباشرةً
وصف حال أم موسى عليهما السلام بعد أن التقط آل فرعون ابنها: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ...} [١٠]،
فخَلا قلبها من كل شيءٍ عدا ابنها.
فما أشد حرقة قلب الأم حين يُقتل
أبناؤها؟! وكم يتكرر هذا المشهد في الأرض بين الناس؟ كم يجري مثل هذا على
المستضعفين من المؤمنين؟ ما أضعف حيلة المخلوق حين تنقطع سُبله! وما أقصر الدنيا
وتبدّل لحظاتها؟
ليست إلا لحظات؛ إما أن تُقدّر حقّ
قدرها، أو تُفقد؛ فلا يبقى منها إلا مجرد الذكرى.
لم تكمُل هذه الدنيا لأحد، ولن تكمُل؛
ومن هنا كان لابد من دارٍ أخرى يُجازى الخَلْق فيها ويُحاسبون جميعًا على أفعالهم
بأصنافها، إلى أن ينتهي الظالمون لأنفسهم بالكفر في النيران، وحتى يُفلِح المؤمنون
ويستقروا في الجنان، قال سبحانه في نفس السورة: {تِلْكَ
الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [٨٣].
وسبحان الله القائل في خاتمة السورة: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ
إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} [٨٨]، فكأن في الآياتِ إرشادَ الآباء الذين فقدوا
أولادهم إلى التوحيد، وتذكيرَهم بهلاك كل شيء سِوى الله تعالى، ووعظًا لهم باتصاف
الله بصفة الـحُكم، وأنه يفصل بين الخلائق بالحق والعدل عند الرجوع إليه يوم
القيامة؛ لتطمئن نفوسهم وتركن إلى عدله التام ووعده الصادق. وهذه المعاني يتأكد
استحضارها عند مَن فقدوا أولادهم بالاعتداء والقتل؛ لما في هذه الحالة من لوعة
الصدر وحرقة القلب، مما يتطّلب اليقين بالله الحَكَم والرجوع إليه أكثر من حالات الموت
الأخرى.
ثم إذا بحثنا أكثر سنجد ارتباطًا وثيقًا
بين صفة (الحُكم) لله تعالى، ويوم الرجوع إليه، يقول تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا
لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، فإنّ "الذي
تولاهم بحكمه القدري، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير، ثم تولاهم بأمره ونهيه...
رُدُّوا إليه ليتولى الحُكم فيهم بالجزاء، ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات،
ويعاقبهم على الشرور والسيئات، وَلهذا قال: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} وحده لا شريك
له {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} لكمال علمه وحفظه لأعمالهم، بما أثبتته في
اللوح المحفوظ"([1]).
ولصفة الحُكم كذلك ارتباط بقضاء الله
وقدره، إذ اسم الله (الحكيم) يتضمن صفة الحُكم كما يتضمن صفة الحِكمة، والحُكم
المثبت لله تعالى هو الحُكم الـمُطلق، بينما حُكم غيره مقيد، فشملت أحكامه تعالى:
الحكم القدري (القضاء والقدر)، والحكم الديني (شريعته تعالى)، والحكم الجزائي
(المجازاة على الأعمال بعد الموت). وكل أحكامه سبحانه مقرونة بالحِكمة والإحكام،
ومن ذلك نصيبنا من النِّعم والأرزاق والابتلاءات في الدنيا، ومن ذلك ما شرعه لنا
للعمل به من عبادات ومعاملات، وما قضى به جزاءً ومحاسبةً للمُمتثلِين لأمره والممتَثِلات،
وكذا المخالفين والمخالِفات، فهو الحكيم سبحانه من كل وجه، فيضع الأشياء في
مواضِعِها اللائقة بها؛ لكمال علمه وقدرته وتمام مُلكه وعِزّته.
وقد اقترن اسمه الحكيم في القرآن بأسماء
أخرى في غير ما آية: بالعزيز -47 مرة- وبالعليم -36 مرة- وبالخبير -4مرات-، واقترن
بالواسع والتوّاب والحميد والعليّ مرةً واحدة مع كلٍ منها، ووصف نفسَه عز وجل بأنه
{خير الحاكمين} و {أحكم
الحاكمين}، وفي السنة: «إنَّ اللهَ هو الحَكَمُ
وإليهِ الحُكمُ..» [رواه النَّسائي:5402، وصحّحه الألباني]([2]).
وإنّ من حُكمِه سبحانه وتمام عدله أن
يقضي بين البهائم أيضًا، فقال تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن
شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]،
فأثبت الحشر لكلّ ما يدبّ على الأرض ويطير في السماء، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ،
حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ» [رواه مسلم:2582].
"في هذا الحديث أقسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق بغير قسم.
أقسم أن الحقوق ستؤدى إلى أهلها يوم القيامة، ولا يضيع لأحد حق. الحق الذي لك إن
لم تستوفه في الدنيا استوفيته في الآخرة ولابد، حتى إنه يُقتصّ للشاة الجلحاء من
الشاة القرناء. الجلحاء: التي ليس لها قرن. والقرناء: التي لها قرن. والغالب أن
التي لها قرن إذا ناطَحت الجلحاء التي ليس لها قرن تؤذيها أكثر، فإذا كان يوم
القيامة قضى الله بين هاتين الشاتين، واقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. هذا
وهي بهائم لا يعقلن ولا يفهمن؛ لكن الله عزّ وجلّ حَكَمٌ عَدل، أراد أن يُري عباده
كمال عدله حتى في البهائم العجم، فكيف ببني آدم!"([3])
وسبحان مَن كمُلت صفاته، وجلّ كلامه،
وأُحكِمَت آياته! فهو القائل جلّ جلاله في سورة العنكبوت التالية لسورة القصص: {الـم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ، مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ۚ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:1-5]، مع
تكرر ذكر حقيقة الحياة الدنيا، وأن كلّ نفسٍ ذائقة للموت، والتقرير بأن الحياة
الحقيقة التامة في الدار الآخرة.
فاللهم أنزل سكينتك على عبادك
المستضعفين في غزة وميانمار وتركستان الشرقية وفي كل مكان، اللهم اربط على قلوبهم،
ولا تفتنهم في دينهم، واجمعهم بأحبابهم المؤمنين في جنات النعيم.
جمانة بنت ثروت كتبـي
ليلة رمضانية/ 1446هـ
([2]) راجع للتفصيل: اسم الله الحكيم وآثاره (دراسة عقدية)، سارة بنت
فكري عقلان، رسالة ماجستير بجامعة أم القرى، نُشر جزء منها على قناة (معرفة الله
تعالى) التليغرامية، عبر الرابط: https://t.me/Knowing_God/687
جبر الله قلبك جبرًا هو وليه❤️🩹
ردحذفكلماتك أنيسه كالبسلم، خفيفة كالنسمة الباردة..
وفقك الله وشرح صدرك وسددك..
لا حُرمنا قلمك
اللهم آمين، ووفقكم، وتولّاني وإياكم برحمته.
حذف