الفكر في العافية

 


الفكر في العافية

مؤخرًا شاهدتُ مع أختي -خرّيجة التغذية العلاجية- وثائقيًا مترجمًا، عن الخطر الذي تتضمّنه بعض الأطعمة. بدأ الأمر بشريحة الهامبرجر وشمل في ثناياه اللحوم المفرومة عمومًا، ثم انتقل إلى الخضروات الورقية، وعلى رأسها الخس واختص بالحديث الروماني منه، ثم انتقل إلى البيض والدجاج، ومرّ في أثناء ما سبق بالفول السوداني سريعًا.

وفي قرابة ساعة وثُلثها؛ كان جُلّ الحديث عن مرضَين فقط مقتَرنَين بالأطعمة السابقة، تُسببهما: (اشيريشيا كولاي) و (السالمونيلا)، وكلاهما نوعان من البكتيريا قد يؤدي انتقالهما عبر الطعام في ظروف سيئة إلى مرضٍ مميت! ووقف الفيلم مع بعض الأحداث الأمريكية الكارثية التي غيّرت من طريقة تعاملهم مع الأغذية؛ حتى "كُلِّفت 15 وكالة فدرالية بشكل أو بآخر بقوانين سلامة الغذاء".

ظنّت أختي أني من الصدمة سأتوجس من كل شيء بعد هذا الكمّ من التحذيرات! فتفقّدتني بعد أن انتهينا. فطمأنتها، وشاركتها الأفكار التي راودتني حينها، وهي ثلاث، أشاركها بعد المعالجة:

١- ليس المطلوب التوجس والشك، والتحريم على النفس ما أحلّه الله، بل المطلوب اجتناب أحوال معينة؛ عملًا بالأسباب كي يسلم جسد المرء. وفي المادّة التي عُرضت كان المطلوب الحرص على غسل الخضروات الورقية بدقة، والتعامل الكُفء مع اللحوم المفرومة بطهيها جيدًا، وأما البيض والدجاج فلابد من غسل اليدين جيدًا بعدهما وقبل لمس أي شيء آخر، وأمثال هذه التوجيهات الواعية. وبحسب ما فهمت، فالأحوال التي سببت كارثة صحيّة للناس نتجت من التفريط فيما سبق، مع شيء من الاستهتار بشأن أثر الطعام من الأفراد والأُسر، والثقة العمياء بشركات الأغذية والمطاعم.

والموقف السويّ هنا وفي الحياة عمومًا هو العمل بالسبب مع التوكل على الله واليقين بصيرورة المرء إلى ما قدّره الله له. قال صلى الله عليه وسلم: ".. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا، ولكن قُل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" [رواه مسلم]. فمن الأمور التي أفادها هذا البيان النبوي، كما قال ابن القيم -رحمه الله- في شفاء العليل: "أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو: بذل الجهد، واستفراغ الوُسع... وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا. وأن يكون حرصه على ما ينتفع به. فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه بغير حرص، فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك... ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمَرَه أن يستعين بالله..." (1/231).

فهذا التوجيه يعم ما ينفع المرء في المعاش الدنيوي والمعاد الأخروي، وأرشد لأهمية الاستعانة بالله، وذكّر بضعف الإنسان وجريان بعض المصائب عليه، وقرّر وقوع قدر الله كما اقتضته مشيئته، وأبان عن اقتناص الشيطان للفرص، وأن غلق الباب على أفكاره المحزنة أولى وأحرى بالمؤمن. والطعام من جملة ما ينفع المرء في معاشه ويستقوي به على ما يستعدّ به لمعاده، فالاهتمام به بالقدر اللائق المناسب الذي لا إفراط فيه؛ ممدوح من هذه الزاوية.

٢- الكوارث الغذائية التي ذُكرت في الوثائقي، وهو في أصله من بدايته إلى نهايته يختص بالولايات المتحدة الأمريكية وظروفها، ورغم التعاطف الذي قد يحلّ بالمشاهد وهو يرى التفاصيل الـمَرضية المسجلة؛ لكن المرء يُدهش أن هذه البلدة -التي تقدّمت وتطوّرت على خيرات الآخرين وربما آلامهم- عانت وتوجست خوفًا من الموت بسبب الطعام!! حتى جاء في الوثائقي أن "48 مليون شخص يمرضون من أمراض منقولة عبر الطعام سنويًا في أمريكا. وفق مراكز مكافحة الأمراض." فسبحان العزيز الحكيم!

وإن الأمراض والكوارث والأوبئة والنَكَبات بأشكالها المأساوية المختلفة لَموضعٌ حسن من مواضع الاتعاظ والاعتبار! يكفي أنها تأتي وتُذكّر الإنسان بضعفه ومخلوقيّته وأنه عبدٌ لخالقه الغني، وأن بني آدم مهما انفتحت عليهم الدنيا بمباهجها وظنوا مُكنتهم التامّة من أسرارها، فلا ضامن لهم بدوام حالها، وبقاء سرورها، ولو سكنوا الدولة العُظمى والمدينة الفُضلى!

٣- أسوء نهاية تُروى على لسان الغرب هي ما ينتهي بالموت! ومزيد من الحزن يُضاف على الحزن حين يكون الميت طفلًا أو شابًا.. صحيح أننا فُطرنا على التعاطف مع هاتين الحالتين أكثر، ومع ذلك فحزنهم وحزننا في مستوى مختلف تمامًا! هم يحزنون مع استصحابهم فكرة أن الموت هو النهاية، ومَن لم يتمتع في حياته لن يتمتع بعد موته، فالموت في روايته ورؤيته للأحداث هو النهاية "The End". الأصل أن أهل الكتاب منهم يؤمنون بما بعد الموت، ولكن نَزَعات الإلحاد والعِلموية وأفكار أخرى كثيرة يشك المرء معها عن قدر ما بقي لهم من الإيمان بالآخرة في ظلها!

جاء في كتاب معنى الحياة في العالم الحديث، للوهيبي: "المجتمع الحداثي يتباعد قدر ما يمكنه عن كل ما يتعلق بالموت أو يذكر به.." ص(406). و"إنكار الخلود في الزمن الآخر، واعتقاد الموت الأبدي للذات وللآخر المحبوب؛ يجعل ألم الفقد والفراق مضاعفًا ومُدمرًا، وفي أحيان كثيرة يفوق قدرة الفرد على التحمّل..." ص(410). والحديث هنا عن طبيعة الحياة الحداثية التي أوغلت في الماديّة، بغض النظر عن إيمان أفراد بعينهم بالآخرة، فالمذهب العَلماني وتبنّي الرؤى الحداثية كمنهج حياة أثّرا -بمستويات مختلفة- في دين بقيةِ المحسوبين من أهل الكتاب.

بينما نحن في الإسلام مع حزننا الطبيعي لا نبالغ؛ لأننا نؤمن بالدار الآخرة، التي يؤخذ فيها للمظلوم حقّه، وينال فيها الظالم جزاءه، ويستقرّ الموحّد برحمة الله في جنته، ويستقر الكافر بعدل الله في ناره. "فالوجود الحالي في نظر المؤمن جسر عبور، لا دار إقامة، وكل ما في الوجود إنما يكتسب قيمته بصلته بالعالم الباقي... فالاستعداد للموت يحدد أهمية الفعل اليومي. وفي ضوء هذا المنظور الغيبي الشاسع يتحدد الموقف من الحياة برمتها، ومن الموت، والألم، ومن ألوان التعاسات..." ص(419). فخوفنا من الموت -باختصار- خوف المقصّر في طاعة الله. وخوفهم خوف من انقطعت متاعاته. وشتّان بينهما!

لا شك أن الأمن الغذائي -بمعناه العام- على مستوى  الفرد والجماعة مَطلب، وتحقّقه مَكسب، لكنه في حقّ الأفراد خصوصًا يظل هدفًا مُؤطرًا في إطارٍ من الوسطية الحاميّة من الإفراط والتفريط. نسأل الله أن يُطعم جَوعى المسلمين، وأن يَشفيَ المُعتلّين، وأن ينصر المستضعفين، ونسأله سبحانه لنا ولهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

 

جمانة بنت ثروت كتبـي

22 / 3  / 1446هـ




Image by Freepik


تعليقات

  1. كلام جميل للتوعية وتثقيف الناس. اللهم ارزقنا قلوب وعقول تعي بما ينفعها ويضرها.

    ردحذف
  2. اللهم بارك🌧️💞
    لا حُرمنا مقالاتك.. سبحان من حلاك!
    أسأل الله العظيم أن يستخدمك ولا يستبدلك وينفع بك أمة الإسلام والمسلمين ..

    ردحذف
    الردود
    1. آمين وإياكِ يا غالية، وبارك فيك ونفع بك.

      حذف
  3. كلام جميل اسعدكِ الله وكتب لك الاجر

    ردحذف

إرسال تعليق