التوحيد على مائدة الإفطار

 


التوحيد على مائدة الإفطار

         نهاية كل يومٍ رمضاني ليتنا نتنبّه إلى الدرس المتوفر بين أيدينا وعلى مائدتنا، فهو درسٌ مهم إن لمحناه، كبيرُ القَدْرِ إن تدبّرناه، عظيم الوَقع إن عقلناه.

على مائدة الإفطار في مختلف بقاع المسلمين وأماكنهم؛ سنجد -غالبًا- طبقًا متواضعًا مشتركًا؛ إذا كان الـمُفطرون على قدرٍ من العلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعها، وهو طبق حبّات التمر أو الرطب.

         هذه الثمرة المباركة ذُكرت أجزاء منها في مواضع متفرقة من كتاب الله، يُراد بها التمثيل على أمور عقدية مَهيبةٌ عظيمة. هي ثلاثة أجزاء من الثمرة، في ست آيات، على النحو التالي:

* النقير:

هو الحفرة الموجودة في النواة، وحجمها مقدار النَقرة، ويُمثّل بها للشيءِ الطفيف([1])، وورد ذِكرُه في كتاب الله مرَتين:

الأولى في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء:53]، والآية في سياق الحديث عن بعض قبائح اليهود، والتي منها مداهنتهم لكفار قريش وادّعاء أنهم أفضل حالًا من المسلمين أتباع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إلى أن عرّض الله تعالى ببخلهم لو كان لهم نصيب في مُلكه تعالى، حينما قال: {أم لهم نصيب من الملك} "أي: فيُفضّلون مَن شاءوا على مَن شاءوا بمجرد أهوائهم، فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة، فلو كانوا كذلك لشحّوا وبخلوا أشدّ البخل، ولهذا قال: {فإذًا} أي: لو كان لهم نصيب من الملك {لا يُؤتون الناس نقيرًا} أي: شيئًا ولا قليلًا. وهذا وصف لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله. وأخرج هذا مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد"([2]).

والمرة الثانية في قوله سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]، "دخل في ذلك سائر الأعمال القلبية والبدنية، ودخل أيضًا كل عامل من إنس أو جن، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى.... {أولئك} الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح {يدخلون الجنة} المشتملة على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين {ولا يُظلمون نقيرًا} أي: لا قليلًا ولا كثيرًا مما عملوه من الخير، بل يجدونه كاملًا موفرًا، مضاعفًا أضعافًا كثيرة"([3]).

فالمرة الأولى للنقير تُبيّن نقصَ مُلْكِ المخلوق، والمرة الثانية له تُجلّي كمالَ عدلِ المعبود سبحانه.

* الفتيل:

هو "الخيط الذي يكون في شق نواة التمر"([4])، وجاء ذكره في ثلاث آيات، اثنتان منها في نفس السورة السابقة:

الموضع الأول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49]، وهذه الآية كذلك لها تعلق باليهود والنصارى ثم مَن صنع مثلهم، فهي "تعجيب من الله لعباده، وتوبيخ للذين يُزكّون أنفسهم من اليهود والنصارى، ومَن نحا نحوهم من كل من زكّى نفسَه بأمر ليس فيه. وذلك أن اليهود والنصارى يقولون: {نحن أبناء الله وأحباؤه} ويقولون: {لن يدخل الجنة إلا مَن كان هُودًا أو نصارى} وهذا مجرد دعوى لا برهان عليها، وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فهؤلاء هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا: {بل الله يُزكّي من يشاء} أي: بالإيمان والعمل الصالح بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة، والتحلي بالصفات الجميلة.

وأما هؤلاء فهم -وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء، وأن الثواب لهم وحدهم- فإنهم كذبة..." ومع ذلك قال سبحانه عن هؤلاء الكذبة: "{ولا يُظلمون فتيلًا} وهذا لتحقيق العموم أي: لا يُظلمون شيئًا ولا مقدار الفتيل الذي في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها"([5])، فإن كان الله سبحانه مُنزّهًا عن ظلم هؤلاء، فغيرهم من عباده الصالحين من باب أولى.

الموضع الثاني قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، الآية في سياق ذكر شأن بعض أهل الإسلام الذين تمنوا تأخير الجهاد بعدما فُرض، "ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلّف عن القتال فقال: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} أي: التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة... العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور، عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه، ولهذا قال: {والآخرة خير لـمَن اتقى} أي: اتقى الشرك، وسائر المحرمات. {ولا تُظلمون فتيلًا} أي: فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملًا مَوفرًا غير منقوص منه شيئًا"([6]).

أما الموضع الثالث، فقوله جلّ جلاله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء:71]، فهي تعود قريبًا لمشهد حساب المؤمنين -كما في الموضع الثاني لورود كلمة النقير- "{فمَن أُوتيَ كتابَه بيمينه} لكونه اتبع إمامه، الهادي إلى صراط مستقيم، واهتدى بكتابه، فكثرُت حسناته، وقلّت سيئاته {فأولئك يقرءون كتابهم} قراءة سرور وبهجة، على ما يرون فيها مما يفرحهم ويسرهم. {ولا يُظلمون فتيلًا} مما عملوه من الحسنات"([7]).

فكل مواضع ورود الفتيل مرتبطة بنفي الظلم عن الله تعالى، ولو كان على الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب الذين يُزّكون أنفسهم والمفترين بذلك على الله الكذب، ولو كان على بعض المؤمنين الذين كان عندهم شيءٌ من التخلفّ عن القتال حينما أمر الله تعالى به، فإنه سبحانه وعظ هؤلاء بخيرية الآخرة وانتفاء الظلم فيها، وكما في الآية الأخيرة التي عن المؤمنين الذين يؤتَون كتابهم بيمينهم دون وقوع ظلم لهم ولو قدر الفتيل. فنُفي الظلم في الحساب مهما قلّ مقداره، و"عبّر بأقل الأشياء -الفتيل- تنبيهًا على الأكثر"([8])، فإن نُفي مقدار خيط التمرة ظلمًا، فأكثر منه منفي الوقوع من باب أولى.

* القطمير:

هو القشرة البيضاء الرقيقة التي تحيط بنواة التمر([9])، وردت مرة واحدة فقط، تُقارب في دلالتها الموضع الأول لورود كلمة النقير:

قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، وارتبطت الآية هنا بالمعبودات من دون الله، من شجر أو حجر أو أي شيءٍ عُبد وليس بمستحق حقيقة للعبادة، فكل المعبودات من دون الله "لا يملكون شيئًا؛ لا قليلًا ولا كثيرًا، حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء، فكيف يُدعَون وهم غير مالِكين لشيء من مُلك السماوات والأرض؟"([10])([11])، فهذا خطابٌ عقلي للبرهنة على توحيد الله، فإنّ كل مَن عُبد من دون الله ناقص، ومِن نقصه عدم مُلكه لشيء، ولا حتى للقطمير الحقير قدرًا وحجمًا، فكيُف يُعبد ويُتوجه إليه بالحوائج والنوازل والمدلهمات؟

"فأي برهان أعظم من هذا البرهان... فهو دليل عقلي فطري كما أنه دليل سمعي نقلي على وجوب توحيد الله وأنه الحق، وعلى بطلان الشرك... فنُعوت الباري تعالى وصفات عظمته وتوحده في الكمال المطلق أكبر برهان على أنه لا يستحق العبادة إلا هو. وكذلك صفات المخلوقات كلها، وما هي عليه من النقص والحاجة والفقر إلى ربها في كل شؤونها، وأنه ليس لها من الكمال، إلا ما أعطاها ربها من أعظم البراهين على بطلان إلهية شيء منها. فمَن عرف الله وعرف الخلق اضطرته هذه المعرفة إلى عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له والثناء عليه، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وأركانه وانصرف تعلّقه بالمخلوقين خوفًا ورجاءً وطمعًا"([12]).

* الخلاصة:

         أن هذه الأجزاء الثلاثة من ثمرة التمر ضُربت أمثلةً لتُقرّب إلى الذهن كمال مُلك الله وعدله، خلافًا لكل مَا سواه سبحانه من الـخَلْق، فهم ناقصون في الـمُلك، قابلون للظُلم، فالظلم يفعله المخلوق لنقصه، فهو يخاف أو يطمع فيظلم، والله سبحانه له الملك التام فلا طمع! وهو على كل شيءٍ قدير فلا خوف! والله يحكمُ لا مُعقّب لحكمه، فيعطي مَن يشاء ويقضي ما يُريد. وكل هذه الأمثلة قريبةُ المساس بحياة الصائم على مدار شهر الصيام؛ فلعله أن يستحضر كمال الربّ فيوحّده.

فهنيئًا لنا والله بهذا الدِّين القيّم، وهذا الكتاب الـمُبارك، الذي تضمّن البراهين والأمثلة. وصدق الله، ومَن أصدق مِن الله قيلًا: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].

 

جمانة بنت ثروت كتبي

 17 / 9 / 1446هـ

 



([1]) انظر: مفردات ألفاظ القرآن، الأصفهاني: ص(821). تحقيق: صفوان داوودي، ط5/ دار القلم.

([2]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، للشيخ عبدالرحمن السَّعدي.

([3]) المصدر السابق.

([4]) القرآن تدبر وعمل، مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي، ص(90).

([5]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، للشيخ السَّعدي.

([6]) المصدر السابق.

([7]) المصدر السابق.

([8]) القرآن تدبر وعمل، مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي، ص(289)، عن تفسير ابن جزي.

([9]) انظر: القرآن تدبر وعمل، مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي، ص(436).

([10]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، للشيخ السَّعدي.

([11]) قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "فإن قيل: أليس الإنسان يملك النخل كله كاملا؟ أجيب: إنه يملكه، ولكنه ملك ناقص ليس حقيقيا؛ فلا يتصرف فيه إلا على حسب ما جاء به الشرع، فلا يملك مثلا إحراقه للنهي عن إضاعة المال" مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، (9/278). ط1413هـ/ دار الوطن...

([12]) القول السديد شرح كتاب التوحيد، الشيخ السعدي، ص(60-61). ط4/ مدار الوطن للنشر.


Image by Freepik



تعليقات

  1. الله يرضى عنك وعن والديك استاذتنا الحبيبة
    كلمات تلامس القلب
    جزاك الله خيرًا لفتة رائعة🤍

    ردحذف
    الردود
    1. أجاب الله دعواتكم، ورضي عنا أجمعين.. أسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح.

      حذف

إرسال تعليق