الامتنان للإحسان والتكيف مع الأيام

 الامتنان للإحسان والتكيّف مع الأيام

        في عالم طلاب الدراسات العليا مواقف لو سُطرّت بماء الذهب لما كان هدرًا؛ ذاك لأنها تجسّد شيئًا من التفاني الإنساني، ورهافة الحس الأخوي.

 إحدى رفيقاتي بغير طلبٍ مني بادرت وأرسلت لي عشرين كتابًا من مكتبتها؛ إذ نشترك كِلتانا في البحث حول الفِكر النِّسوي بشكلٍ أو بآخر، فمُذ انتهَت مما عندها وعلِمَت بِبدئي للرحلة بادرت مبادرةً إلى اليوم لا أعرف كيف أجزيها! وأخرى لا تبخل عليّ بإجابة، ولا تشحّ عني بنقاش، فكانت لي الملجأ الآمن للسؤال، والمحضن الهادئ للنقاش، دون حرجٍ أو نكير، ودون خوفٍ من تسخيفٍ أو تصنيف. ورفيقةُ دربي بالرياض -حقيقةً لا مجازًا-، مَن كانت بمثابة الأخت الكبرى فحفّتني بحُنوّها، وغمرتني بكرمها -واقعًا لا مجاملةً-؛ أتت من الكويت إلى مكة للعمرة؛ وحملَت معها من هناك كتابًا يهمني وليس عندي، بل هو نسختها وآثرتني به والله!

ورغم انقطاعي الحالي عن التدريس وتخرّج مُعظم مَن درستهن من الجامعة؛ إلا أن هديةً مميزة بفكرتها؛ بُعثت إليّ من دون اسم صاحبتها، قد طُرزت الهدية بحرف الدال قبل اسمي؛ قبل أن أحمل اللقب حقيقةً! واكتفَت مُرسلتها أن كتبت فيما كتبت "أستاذتي" فعرفتُ الفئة ولم أعرف العَين إلى ساعتي هذه! ولكن الله يعلمها، ويعلم ما خلّفته لفتُتها وصدقها من عبرةٍ وأثر، ويعلم ما تُحدِثه دعواتٌ مِن مثلِها؛ من سرور وطِيب خاطر.

من الحسرة أن ينقضي عُمُر الباحث دون أن يتوقف مع هكذا مواقف وأحداث مُبهرة، تُجلِّي في ناظرَيه عظيم نِعم الله المرسلة إليه، وكثرةِ إقامة الـحُجج عليه، فهل صبرَ وشكر؟ أم أدبرَ واستكبر؟

ومن البَخس أن يستحضر المرءُ مثل هذا ولا يذكر أهل بيته، ممن يُعين ويُساند بطرق أخرى خفيّة؛ هذا يخفف ويتنازل عن حق وواجب، وذاك يفيض ويعطي بلا مقابل، وتلك تدعو آناء الليل وأطراف النهار، وهكذا هي صنائع البيوت المستقرة... التي لم تلوثها نسوية، ولم تَنْسَق للانحرافات الفكرية. تقول صديقتي الباحثة حليمة المالكي: "حقيقةً الأهل سيظلون المقام الأول، العَتاد القوي والنبع المعين بعد الله! قد لا يكون دعمهم معلومات ثريّة أو كتب قيّمة، وقد نجلس معهم الساعات الطويلة ونشرح لهم ولا يفهمون علينا ما نحن فيه، لكنهم يبكون معنا، يقفون من خلفنا، يُشفقون علينا، يدعون لنا، يترقبون إنجازنا، يسدّون حاجاتنا، يعذرون تقصيرنا، ويتفهمون انزعاجنا، ولا يعتبون علينا، يدعموننا مالًا وحبًا" ثم ذكَرَت لي تفاصيل وقرائن؛ تُبيّن صدق الحقيقة التي انتهت إليها، وتُبرز شيئًا من اللُّطف والدّعم اللذَان حفّانها، فتأكدتُ أن الجود يأتي بالجود، وأن كرم حليمة السابق والحاضر؛ فرعٌ عن أصلٍ كريمٍ باهر.

        وإن المرءَ أحيانًا يذكر أشياء ويشاركها، ويُعرض عن ذكر أشياء ويحفظها؛ يُحدد ذلك ما يرجوه من المصلحة، لقلبه وحاله حينًا، ولقلوب الناس المختلفين عنه في حينٍ آخر. وتفصيل هذا أن أحوال الباحثين مختلفة تبعًا لاختلاف حالاتهم الإنسانية، فموقع كل باحثٍ في بيته من حيث الأدوار والمسؤوليات متفاوت، وحظّ كل باحثٍ من العلاقات الاجتماعية التي هي مظنّة التآزر والتعاضد -إن بُنيت على أساس سليم- مختلف كذلك، فالمفترض أنْ لا يدور في خُلد أحدهم: لماذا لا أحظى بالدعم الأسري مثل فلان؟ ولماذا لا يؤازرني الأصحاب مثل عِلان؟! وقِس على ذلك من تفاصيل المقارنات..

        يُسيء الإنسان لنفسه إساءةً كبيرة حين يندمج في المقارنة بين أوضاعٍ وأحوال مُقدّرة على الناس ابتلاءً، فالله عزّ وجل العليم الحكيم، فاوَت بين أرزاق الناس وأحوالهم؛ فيتبيّن بذلك الـمُحسن من المسيء، والراضي من الساخط، والمحب للخير لغيره من الحاسد لهم. ولـمّا نُنصح بعدم المقارنة لا يكون المراد عدم طروء الخاطر الدالّ على التأمل وإعمال العقل، بل يكون المراد النهي عن الاسترسال مع خاطر المقارنة استرسالًا ينتهي إلى جزعٍ أو سخطٍ أو حسدٍ أو يأس، فالسليم منا مَن قادته المقارنات إلى رؤية مفردات النِّعم الجميلة في أيامه، والوقوف المطوّل للاتعاظ بمواضع البلاء في جنبات حياته.

وقد وقفتُ مؤخرًا على مقولةٍ جميلة، ولم أصل لقائلها الأول؛ إذ شاعت في الصفحات، وتناقلتها الحسابات، ينسخون ويلصقون ما بين القوسين إعجابًا، وهي على قصرها تُلخص العبرة المرادة، وتعمّ وضع الباحث وغيره من الناس قائلةً: "كلٌ قد  أرخى عليه الله من النِّعم، وبالمقابل قد أخذ منه، ولكن المرء يختزل المشهد ويضع نُصب عينَيه نقصه مقابل ما كمُل عند الآخرين، ولو رأى الصورة كاملةً لحمد الله ورضي!" فطِب نفسًا، وارغد بما بين يديك، وأنجز بحثك مُتكيفًا مُتعايشًا مع الأحوال المقدّرة عليك.

اللهم أصلح أحوالنا أجمعين، وأجزِل العطاء والحُسنى للأهل المشفقين والصَّحب المخلصين، وكل مَن صنع إلينا معروفًا أو أسدى إلينا نُصحًا ذكرناه أم نسيناه، اللهم وحُفّنا بالطيّبين من خلقك كلَّ وقتٍ وحين.


جمانة بنت ثروت كتبـي

  21 / 6 / 1446هـ




Image by Freepik

تعليقات

  1. لا أدري يا جمانة أأبتسم لجمال روحك أم لسلاسة قلمك أم لمعرفتي بك .. الحمدلله أن جعل في حياتنا أرواح نقية كروحك ♡ وفقك الله وسددك وبارك خطاك وجعل لك لسان صدق في الآخرين وأورثك وأهلك وصحبك جنة النعيم

    ردحذف
  2. اللهم آمين، سلمتِ وطبتِ يا غالية، جعلني الله وإياك عند حسن الظن، وبلّغنا خيرًا مما نرجو ونُؤمل.

    ردحذف
  3. عبارات مؤثرة، و طرح لا يمل، وحديث ذو شجون، هذا والله نعيم الدنيا المعجل، نعيم أخوة يسارعون للرفع والنفع، نعمة لا تقدر.. وفقك الله جمانتي و زادك من فضله وحفظ لك الأحباب والأصحاب، و أحاطك بمعيته 🌹

    ردحذف
    الردود
    1. أتفق معك أمجاد: فعلًا من نعيم الدنيا الذي نسأل الله ألا يحرمناه. شكشرًا لكِ لمشاعرك الطيبة ودعواتك الحسنة، وجزاكِ الله بمثلها وزيادة عزيزتي.

      حذف
  4. اللهم بارك كلامتك في الصميم اختلجت وجداني وأخذتني لعالم جميل اللهم سخر الله لنا ولهم دومًا عبادك الصالحين وارزقنا صحبةً مباركين.
    ورغم ما أجده في الوقت الحالي من الضغوط إلا أن كلماتك الجميلة أختي الغالية جمانة فتحت لي باب الأمل والتفاؤل بارك الله فيك وبارك في قلمك ونفع به العباد.

    ردحذف
    الردود
    1. اللهم آمين يا رب جميعًا، سُعدتُ كثيرًا أن نفعتكِ كلماتي تغريد الحبيبة، ربي ييسر أمركِ ويبارك في وقتك وجهدك عزيزتي.

      حذف

إرسال تعليق