الدواء الثاني
يُقال أن الكتابة من أساليب الشفاء من
الحزن، ولا أعرف هل عنوا بهذا استمرارية العلاج كلما طرأ الطاري الذي يُهيّج تلك
المشاعر، أم عنوا به علاجًا لمرةٍ واحدةٍ؛ من بعدها سُينسى الموضوع المُحزن تمامًا؟
لقد كنت أظن أن الأمر هو الحالة الثانية؛ لأنني وُفّقت في المرة الأولى لنسيان حزني
إثر انشغالي بكتابة مقالة عن (الحزن)، ورغم شدّة المفارقة؛ قد نجح الأمر!
لكن لم يكن علاجًا تكفيه جرعة واحدة كما
توهّمتُ أولَ مرة؛ وإلا لم أشرع فيما أنا بصدده من هذه الكتابة التي لا أدري إلى ماذا ستؤول؟ بل حول ماذا تدور؟!
ماذا عن سُبل علاج الحزن الأخرى؟ التقرّب
إلى الله تعالى دعاءً والأنس بتلاوة القرآن تدبرًا، وهذا سبق وذكرتُ بعض سبيله في مقالة الحزن السابق ذكرها، وله دوره في سُكون القلب وهدوئه. فلن أتطرق لهذا هنا، وأعني بالسبيل في
سؤالي: أن يكون شيئًا يُنهي اشتعال ذكرى الموضوع الـمُحزن وطُروئه على الذاكرة
أساسًا، فلا يضطر المرء لمجاهدة أفكاره، ومدافعة ذكرياته؛ وبالتالي فلا يحتاج أن
يتعامل مع تبعاته من ضيق قلبه، ومَسيل دمعه، وتكدّر خاطره عن فعل أي شيءٍ حتى حين!
تبدو الكتابة جيّدة حال تكدّر الخاطر لسبب
معيّن؛ فحينها -حسب تجربتي على الأقل- يكون الكلام بالرأس دون تكلّف، وما سيختلف
فقط هو إخراج الكلام وبثّه. قد يبدو الحديث مع الآخرين سبيلًا حسنًا لحلّ هذا
التكدّر، لكن الإشكال أن ليست كل المواضيع تصلح للمشاركة وأن يستمع إليها الناس! ستقول
اللحظة: أليست الكتابة أيضًا عُرضة لأنظار الناس بل ربما لكثير منهم؟ ليس بالضرورة
حقًا، وإن حدث ونشرها الكاتب بطيب نفسه؛ فليس القراء كالأشخاص المعيّنين الذين
يُحدّثهم ويُحدّثونه، ويعرفهم ويعرفونه. وقد يكتب كمجهول وينشر كمجهول ولا يوجد
مَن يراه أو يسمعه (ولا هم يحزنون).
سأجرب النشر لا كمجهول، بل سأكتب صراحةً
ولكن أُطلق المكتوب على صفحةٍ يتيمة في الشابكة دونما رغبةٍ في دعوة الأحبة إلى
زيارتها، كما أفعل هذا بعض الأحيان، وتحديدًا حين لا يكون للقارئ كثير فائدة من
القراءة؛ إلا أن يُسلّي نفسه بقراءة نص مصنّف بالذاتيّة. وربما تكون هذه النصوص
مفيدةً لبعض الناس، لكن لا شك أنها ليست كذلك للجميع؛ ولذلك أُوثر السلامة فلا أَدْعُو الناس للاطلاع عليها؛ ومَن وقف عليها بنفسه فقد وقف.
لعل هذه الرغبة في المشاركة الكئيبة جزءٌ
من سحر الكتابة العجيب في تجاوز الأحزان؟ لا أعلم! فلا تزال هذه محاولتي الثانية،
وأنا صامدة في الكتابة عن أشياء ليست من صُلب موضوع حزني، الذي أجد التصريح به
مثيرًا للشفقة، سواءً مع الخلق أو الورق. ولم يأتِ هذا الانطباع من فراغ، فقد
قرأتُ تصريحات مشابهة، وحقيقةً كان الأمر بئيسًا، ويلمس المرء تهكّم المجيبين الذين يردّون
على المصارحين به، الذين كتبوا موضوعهم رغبةً في نصيحة أو استشارة ونحو ذلك من
السياقات التي حاولوا فيها التداوي. أما هل كان في ردود الناس والمستشارين -الذين
هم على قدر كما يُفترض- شيءٌ من الإرشاد أو السلوى؟ ربما... وبعضهم أسلم من بعض، غير
أن بعضهم يزيد المرء سوءًا من فرط تعاليه، ورؤيته للأمر من بُرجه العاجي.
ثمّة كتابات استشارية لا أعرف عن أصحابها حين
يجيبون مشافهةً أمام عين الإنسان ومَسمعه، لكن إجاباتهم الاستشارية المكتوبة هي ما
أعرف، وهي شديدة الجفاء، خالية المشاعر! والمرء حين يذلف إليك بشجاعة فيستشيرك،
قد يأتيك وهو يعلم أنه لن يسمع عندك جديدًا بالضرورة، لكنه -وربما بغير شعور- يريد
أن تُذكّره بما قد ذُهِلَ عنه الساعة لِفرط حزنه! فلابد أن تحرص على ما تُذكّره به
وأنت مستشعر لشيءٍ من حُزنه في موقفه.. وهكذا في الاستشارات المكتوبة. ولكن ماذا
يصنع البعض؟ يصنعون نصًّا مُتعاليًا؛ يودّ المرء حينها لو كَتَم أنفاسَه وما
استشار مخلوقًا.
ورُبّ ضارّة نافعة كما يقولون.. فيا سعادة
المحزون حينها إن تذكر أن هذه إشارة إلى أن البشر ناقصون دائمًا وأبدًا، فلا جدوى
مرجوة من الإفضاء إلى كثيرٍ منهم، ليعود بذلك إلى الحل الأول، فيرجع قارعًا ضارعًا
باكيًا؛ يريد انفراج أبواب السماء عليه الساعة؛ وما ذلك على الله بعزيز، ولكنّ الله هو (الـمُقدِّم الـمُؤخِر) وهو (العليم الحكيم).
"قد يبكي الإنسان لفرط حزنه، وقد يبكي ليخفِّف وقعَ الحزن عليه.. وكذلك الكاتب حين ينزف بكلماتٍ حزينة، قد تكون تلك الكتابة هي عينُ السلوى عنده، فلا شيء يُبلي نفسَ المحزون مثل كتمِه لأحزانه، ومن باحَ بشكواه لمولاه -جل وعلا- فقد رفعها لمن بيده مقاليد الفرج." هكذا كتب أ. منصور الحذيفي في قناته المؤنسة (في أعماق الكتابة). الآن وأنا أتأمل المكان الذي اخترتُ وضع كلامه فيه؛ تأكدتُ أنه بالنسبة للكتابة، فأنفع وصَفَاتها كدواء؛ هي الكتابة الطائرة التي لا يعرف طريقها إلا قليلًا من القُرّاء الـمُقدَّرِين، الذين يقعون على النص في صدفةٍ منهم بغير دعوة ولا تخطيط.
وأنت أحدهم بلا شك.. فشكرًا لاستماعك، وأسأل الله أن يجزيك عني كل
خير، ويُعظِم أجرك على كل حُزن.. آمين.
جمانة بنت ثروت كتبـي
21 / 1 / 1446هـ
"عندما تواجه أحزانك بالكتابة، فأنت في طريق التعافي، فالكتابةُ أداة فعالة للتصالح مع الأحزان، ومقاومةِ الهزيمة؛ تلك الكتابة التي تُسرِّبُ أحزانك من أطراف أصابعك فتفيض بها حروفك وتصيبُ عدواها قراءك، وتلملم غشاوة الحزن عن قلبك، وتشذب زوائد ألمك، وترتبها في موضعها المناسب من ذاكرتك." إبراهيم مضواح الألمعي
تعليقات
إرسال تعليق