تحديات وجماليات.. مصارحات بحثية

 


تحدّيات وجماليّات.. 
                                                                  مصارحات بحثية

لا أزال أذكر ذلك اللقاء الذي عُقد لإفادة الطالبات المستجدات في الدراسات العليا، والذي كان الانطباع الأبرز الذي خرجتُ به حينها، أنني تمنيتُ لو كُتب في صفحة شروط القَبول: "تحذير: هذا العالم ليس لأصحاب القلوب الضعيفة" لكنها للأسف لم تُكتب!

أفهم جيدًا لِمَ لم تُكتب ولا تُكتب؛ فالتجارب ببساطة تختلف من باحث لآخر، والخلفية العلمية والظروف الحياتية كذلك شديدة التنوع، حتى أن ما لم تسمعه من صاحبه قد لا تعتقد وجوده! بالإضافة إلى أن هذا النوع من التحذيرات قد يفهمه بعض الناس على أنه صدٌ للطموحين عن سلوك الطريق، وتقبيح لدرب العلا، وعدم محبة الخير للغير. قد يكون فعلًا هذا داعي البعض، وأما البعض الآخر فلا. بالنسبة لي كنتُ أحتاج تصورًا جيدًا لطبيعة هذه المرحلة الجديدة، لأن التصوّر يعين على حسن الاستعداد قدر الإمكان، ولذلك رغبتُ لو حُذِّرت بالقدر الذي حُمِّست.

ومن المفارقات الدّالة على النمو النفسي أنني صرتُ أحضر لقاءات مشابهة في استهدافها للباحثين؛ وما عدتُ أستحضر هذا التحذير ولا يطرأ لي على بال! بل أصبحتُ أعي ما يُقال في مكانه وموضعه، وآخذ ما يناسب ظرفي وبحثي وحالتي، وأدع ما لا يناسب دون أن يؤنبني ضميري أو أشعر بخطيئة ترك النصح.

بصراحة هذا من أجمل مكتسبات الدراسات العليا: أن الباحث يكبر مع بحثه.

كتبتْ صديقتي شريفة المالكي ذات مرة: "من الصفات اللازمة في طلبة الدراسات العليا هي رباطة الجأش وطول النَّفَس، هاتان الصفتان لا يتحقق مطلوبه بدونها." وأنا معها فيما قالت، وأضيف عليه: أن هاتين الصفتين تكبران مع طالب الدراسات العليا، ولعلهما أشد ما اندهش الطالب بحاجته إليه حين ولج إلى الماجستير أولَ مرة!

وعلى كثرة اللقاءات التي حضرتُها عن مجالات متعددة في الدراسات العليا لا يزال أشدها وقعًا على نفسي لقاء لد. وزيرة باوزير، ومما دوّنتُه من كلامها: "البحث نفسه هو رحلة (اكتشاف الذات) وقد تكون معرفته -الباحث- السابقة عن نفسه نظرية. والبحث هو (قيادة للذات)، تدير أولوياتك، قراراتك، مشاعرك، تصرفاتك... الخ. ليس فقط في اختياراتك البحثية للمنهجية والأدوات... وإنما أولوياتك وتنظيمك لحياتك وتحكمك في مشاعرك.." وهذا بالضبط ما ذكرتُه لك عن النمو النفسي وأن الباحث يكبر مع بحثه، فالرحلة البحثية أكبر من مجرد موضوع تكتُبُه وفق شروط علمية وضوابط فنيّة، وفي زمانٍ مُحدد، يبخسُك الآخرون منه حينًا، وتبخسُ نفسك منه في أحايين أخرى.

         أي أنك في البحث بين مدٍ وجزر، تتنازعك التحدّيات المترامية المجالات، خصوصًا وأن عُمرك وقت الدراسات العليا يتزامن غالبًا مع بداياتٍ حياتية جادّة، وكلٌ فيها يريد حقّه منك. والحالةُ هذه فلا شك أن قدرتك على إدارة الوقت، وتهذيب النفس، هي أولى أولوياتك للنجاة.

         وفي خِضم كل المشاكل، قد يكون من أشدّها: شعورك بالنقص وعدم الأهلية للكتابة، ولا أحب الخداع ولا أن أقول للجميع "أنت لها"، فقد يكون أحدنا فعلًا بحاجة ماسة لمعالجة بعض محالّ القصور لديه، وهذا من الموضوعية والشفافية التي ينبغي أن يكتسبها الباحث الذي سيتعرّف على نفسه أكثر فأكثر أثناء البحث، فنقاط الضعف تحتاج إلى معالجة، لا إلى خطابٍ عاطفي يُعمي عن أساس المشكلة. ولكن قد يكون الأمر مجرد وسوسة ورهبة من الإقدام على مَهيب، فكل جديد نخوضه نخشاه أولَ مرة، فهنا: كيف يتغلب الباحث على شعوره بالنقص؟

بعد أن يستشير ويستنصح، ويقرأ لنماذج متميزة في مجال بحثه، فعليه أن يُكثر من الحوقلة، فتكون "لا حول ولا قوة إلا بالله" هُجيّراه، مستشعرًا أن القوة من الله تعالى، وأنه ليس له حول ولا قوة إن لم يرزقه الله ويمدّه بهما، فيستعين بالله ويُظهر له الضعف والحاجة وهذا حق، وهذه حقيقة الإنسان. ثم يُقدِم على الأمر كما هو، جاعلًا شعار المرحلة "عثراتُ الـمَسير أجدى من سلامة التوقف". ثم مع الوقت تتكشّف النواقص فيُتمّها أو يُعيد ما يحتاج لإعادة، أو يُحسّن هنا ويُضيف هناك، فكل هذا لن يكون بدون البدء المتعثّر على وَجَل. بل أزعم أن وجود الهيبة من الكتابة علامةٌ جيدة على صحة النفس؛ ما لم يتجاوز الأمر قدره، فالكتابة البحثية الجادة لأول مرة تستحق أن تُهاب؛ لتؤخذ بمسؤولية وتواضع. أما مَن يرى نفسه كاملًا دائمًا؛ فلن يزيده البحث والدراسات العليا والدرجة العلمية إلا غرورًا!

الحذر، والضعف، والمشكلات، والعثرات... كل الجوانب التي سبقت مما قد يُحجِم ويُخيف ليست هي الصورة الكاملة لهذا العالَم، الذي يجمع تحدّيات لا تخلو من جماليّات؛ يجتاز تحدياتها ويعيش جمالياتها مَن قدّر الله له ذاك.

إنّ العالَم البحثي عالمٌ عجيب! تُحبه ولا تحبه! تريد أن تخرج منه وإن خرجتَ منه حدثتك نفسك أنك إليه مشتاق! يُحزنك أن حياتك متوقفة، والناس من خارج حجرتك مستمرين في عجلة الحياة؛ بينما أنت متصلّب الرقبة على حاسوبٍ تحتالُ على ذاتك لتفتحه فقط؛ ثم تتفاجأ بك أنك اندمجت وأُسرت!

وإنّ أشد لحظاتك البحثية خصوصيةً وبهجةً لا يُدركها غيرك: تلك التي تفهم فيها شيئًا بعد أن لم يستبن لك لأيام.. وتلك التي تُضاء لك الفكرة الجديدة فيها بعد التقليد والتكرار! فكيف بهذه اللحظات السعيدة إذا ما اقترنت بتسلّل صوت المؤذن لصلاة الفجر؛ فتتوقف... وترمي بثقلك إلى بطن مقعدك الذي ملّ جلوسك.. وتُرخي يديك.. كأنما كان ما سمعتَه هو نداء المنادي بإعلان الانتصار بعد معركة لم تكن إلا في عقلك، ولا يدري بها أحد في هدأةِ الليل!

وسواءٌ بحثتَ صباحًا أم مساءً، واصلتَ ليلًا أو نهارًا؛ فلا تبرح من ههنا إلا وقد عزمتَ على إلزام نفسك تحرّي أوقات إجابة الدعاء، وعلى رأسها ما بين الأذان والإقامة، فإذا سمعتَ النداء أوقف معركتك البحثية، وناجي الإله بدعواتك المطابقة لانكسار نفسك، واستشعارها الضعف والحاجة إلى المدد: "اللهم ألهمني رُشدي، وقِني شر نفسي" مثلًا. ولا يُعمينّك الهمّ البحثي عن هموم أخرى.. ولعل أنسب ما عُلمناه في هذا السياق وأعمّه: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلِح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين".

كنتُ أيام الماجستير وفي رمضان تحديدًا أقول "اللهم سخّرني لبحثي" ثم لما قدّر الله وحدثَ التسخير؛ سُخّرت حتى مرضت! أما الآن فتعلّمتُ أن أقول: "اللهم سخّرني لبحثي في عفوٍ وعافية" فالحكمة الحكمة، واغتنام الفرص، وقرع الباب؛ فمَن أكثر القرع يُوشك أن يُفتح له.

"فانسِف جبال الهمّ مِنك بدعوةٍ                  إنّ الذي قَصد الـمُهيمن لم يـخَـبِ

واقذِف بسهْم الصبر كُل مصيبةٍ                  والجأ لربِ العرش واسجُد واقتَربِ"

 

جمانة بنت ثروت كتبـي

19 / 11 / 1445هـ


كتابات سابقة ذات صلة:
* الولوج للماجستير:
* فوائد من يوم البحث العلمي الرابع:
* نصائح ومعلومات مهمة لطلبة الدراسات العليا:



 Image by Freepik


تعليقات

  1. زادكم الله علمًا وشرفًا

    ردحذف
  2. غادة عطية 🍃29 يوليو 2024 في 9:08 م

    جميلة جدًا هذه الكلمات.. وهي نابعة من تجربة ثمينة مُدركه👍🍃 دام حرفُكِ جمانة الرائعة🌹

    ردحذف
  3. سلمت أناملك أختي الغالية.
    اللهم بارك كتابة رائعة تحمل معاني لايشعر بها إلا من بدأ في خوض الكتابة شاعرًا بالهم واليأس لتكون عونًا له بإذن الله تعالى وثباتًا، أو انتهى لتعيد له ذكرى لم يكن أبدًا لينساها.
    سخر الله قلمك لنفع الباحثات والأمة أجمع وأنت في صحة وعافية وزيادة إيمان.

    ردحذف
    الردود
    1. وسلمتِ وطبتِ صديقتي الطيبة تغريد، وفتح عليكِ وألهمك الرشد والصواب.

      حذف

إرسال تعليق