مكنونة عجيبة

 

 مدخل: قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} [النساء:126] "الجميع مُلكُه وعبيده... وقد أحاط علمُه بجميع المعلومات" [تفسير السِّعدي].



مَكنونةٌ عَجيبة

        "المشاعر" إذا تأملتها فشيءٌ بديعٌ من خَلْقِ الله! وجودُها من أصدق دلائل الوجود المعنوي، وصعوبة التعبير عنها على الوجه الدقيق الـمُطابق للحال هو مَكمن غَورِها وعُمقها!

يظن المرءُ أنه عندما يُعبّر عنها يَقدر على إيصالها كما شعر بها، لكن هيهات هيهات! فالذي يصل؛ قدْرٌ منها، بحسب البراعة في التعبير، كما إن رأيت صورةً فَسرّتك، ورسمةً فأغضبتك، كما إن سمعتَ قصيدةً فحمّستك، وقرأتَ قصةً فأبكتك! فما حدث معك هو وصولُ المشاعر الـمُعّبَر عنها بصورةٍ أو كلمةٍ، وقد يُفرَّق بينهما بعضَ التفريق، كما يقول المنفلوطي -رحمه الله-:

"الكاتِب كالـمُصوّر كلاهما ناقل وكلاهما حاكٍ، إلا أن الأول ينقل مشاعر النَّفس إلى النفس، والثاني ينقل مشاهد الحسِّ إلى الحس" لكنه مع تفريقه بينهما بهذا الفارِق الذي يُمكن النقاش فيه، إلا أنه يعود فيَذكر المشترَك الأكيد بينهما، فيقول: "وكما أن ميزان الفضل في التصوير أن تكون الصورة والأصل كالشيء الواحد، كذلك ميزان الفضل في الكتابة أن يكون المكتوب في الطِّرْس، خيالَ المكنون في النَّفْس" [النظرات، 3/ 101، الدار النموذجية].

أي أنَّ كلَيهما مُجوّد بقدرِ إيصاله للحقيقة الحسيّة أو المعنوية.

شيءٌ ما مما يُرادُ إيصاله من خلال الكلمة المكتوبة؛ سيصل، لكن ليس كما هو، فمهما وصلَك من التعبير عن: ذُهول المفاجأة، ولذة النجاح، وصعوبة الكفاح، وألم الوِحدة، وأُنس الأبوة، وبهجة الأمومة، ومهما كَتَب الكاتِبون وباحَ السّاهِرون، عن: حسرة الخيبة، وصدمة الغُربة، وعن لذعِ اليُتم، ومرارة الفقر، وأمل الحياة، وبشارة الصباح، وغير ذلك مما يتسابق الـمُعبرون للتعبير عنه... لن يُدرَك أيُّ شيءٍ منها تمامَ الإدراك إلا بالـمُعايشة! فلا يتصوّرن أحدٌ أنّ مشاعره تُفهم حقّ الفهم مِن قِبَل مَن لم يُجربها، ولا يتوهّمنّ مُتوهِم أنه يُحيط علمًا بشُعورِ نفسِ غيره، طالما لم يعش ما عاشتها!

ونفي الإحاطة لا يعني نفي شيء من الفهم، فمن خيرةِ النفوس تلك التي تَقبل اليسير مـمَن يحاول فهمها، بل تسعد تمام السَّعد حين تلمحُ تلك المحاولة، فكيف بالتماهي معها؟

انظر لقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنه- وهي تروي حديث الإفك الطويل، أبقت فيه ذِكرًا مُوثّقًا يُروى إلى يوم الدين، وذلك قولها: "وبَكَيْتُ يَومِي لا يَرْقَأُ لي دَمْعٌ، ولَا أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، فأصْبَحَ عِندِي أبَوَايَ، وقدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ ويَوْمًا حتَّى أظُنُّ أنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي... فَبيْنَا هُما جَالِسَانِ عِندِي وأَنَا أبْكِي، إذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ، فأذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي" [البخاري (2661) ومسلم (2770)].

وكذا انظر فيما صرّح به كعب بن مالك -رضي الله عنه- أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا عن مُؤتة ونزلت فيهم آيات التوبة، قال: "فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وأَنَا علَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِن بُيُوتِنَا، فَبيْنَا أنَا جَالِسٌ علَى الحَالِ الَّتي ذَكَرَ اللَّهُ؛ قدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بما رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ، أوْفَى علَى جَبَلِ سَلْعٍ بأَعْلَى صَوْتِهِ: "يا كَعْبُ بنَ مَالِكٍ، أبْشِرْ"... فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وعَرَفْتُ أنْ قدْ جَاءَ فَرَجٌ، وآذَنَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، ورَكَضَ إلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وسَعَى سَاعٍ مِن أسْلَمَ، فأوْفَى علَى الجَبَلِ، وكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الذي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، نَزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُ إيَّاهُمَا ببُشْرَاهُ، واللَّهِ ما أمْلِكُ غَيْرَهُما يَومَئذٍ، واسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وانْطَلَقْتُ إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنُّونِي بالتَّوْبَةِ، يَقولونَ: "لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ"... حتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إلَيَّ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حتَّى صَافَحَنِي وهَنَّانِي، واللَّهِ ما قَامَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، ولَا أنْسَاهَا لِطَلْحَةَ" [البخاري (4418) ومسلم (2769)]

أعِد وصف أم المؤمنين لحزنها وتوثيقها مُؤازرة الأنصارية لها، وتأمل وصف الله حالة كعبٍ وصاحبَيه، ثم تأمل أخرى قول كعب "لا أنساها"! فلا تنسَ أنت مثل هذه الصنائع التي مُدّتها لحظات، بل وتلمّحها ولا تبخسها قدْرها ولو كانت كلماتٍ يسيرات.

واقبل من بقيّة الناس ما طابت به أنفسهم من أشكال المؤازرة وإن لم يُحسِنوا تأويل مشاعرك، ولا إصابة النصح لحاجتك وبُغيتك؛ فأن تطلب من الناس فهمك في كل خلجاتك؛ فذا طلبٌ عسير، على مُعظم الناس غيرُ يسير! ولا أنتَ بنفسك تُجيدُه وتُحسنه؛ إلا مع قليلٍ منهم. وعليه فليس بمطلوب أن ننفرد، فنُضيف لما بنا؛شعورَ الخذلان والوحدة تَعلُّلا بانعدم مَن يفهمنا! بل المطلوب أن نُدرك الحال؛ وأن نعيش ونحن نعلم أن لكلٍ سرّاؤُه وضرّاؤُه، ولم ينفرد أحدٌ بواحدٍ منهما قط، ولكل منهما مشاعر وعبوديات.

ويا لجمالِ المشاعر بكل تنوّعاتها، فهي عجيبةُ التفسير رَهيبة، سريعةُ التوقّد غريبة! ويا سبحان الله! قد جعل لكل شيءٍ قَدْرًا، وأحاط تعالى بكل شيءٍ عِلمًا، فنسأل الله من فضله.


جُمانة بنت ثَروَت كُتْبـي

   27 / 4 / 1447هـ


مخرج: قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] "أي جعل لكلِّ شيءٍ من الشِّدّة والرّخاءِ أجلًا ينتهي إليه" [تفسير البغوي].


 


تعليقات

إرسال تعليق