ليست علامة جيدة

 



ليست علامة جيّدة


من مواضع الحزن والحسرة التي لو استحضرها المرء لتغيّر سلوكه: يوم القيامة.. إذا رأى الذنوب التي لطالما نُصح بالبُعد عنها من أُناس وأُمر بالانتهاء عنها من آخرين..

كأني به حينها يشتم غباءَه حين كره هؤلاء، وقرّب إليه مَن زيّن له كل سوء! ذلك يقول له -بغير علم- "فيه خلاف"، وثانٍ يقول "لا تضيق على نفسك" وثالث يقول "كم مرة سنعيش؟" ورابع يريحه بـ"الإيمان في القلب"، وخامس يُحدّثه "الله غفور رحيم"، وسادس يطمئنه "هذا لا يصلح لزماننا"، وسابع وثامن وتاسع... ([1]) وكل حين يخرج من العبارات ما يُغري على التقصير -في شأن الآخرة فقط-. والمرء منا في شؤون دنياه يبتعد عن المُثبّطين، بينما في أمور أُخراه يرضى بكل ما يهواه!!

يوم القيامة لن تكون لنا مشكلة أو ضرر من الناصحين والآمرين بالمعروف، بل سيكون الحنق والغيظ على مَن زيّن لنا المعصية أو أزّنا إليها، مهما كان هذا الشخص حبيبًا أو قريبًا إلينا بموازين الحياة الدنيا. هذا هو المعنى الذي تسمع: "الناصح لن يستفيد شيئًا حين ينصحك بترك معصية أو فعل طاعة" ([2]).


شيئًا فشيئًا يصبح كلام شبابنا وفتياتنا -والأدهى والأمر أن يصدر من كبارنا- كأنه كلام الغربي الخالص! إذا قلتَ له شيئًا أجابك "حرية شخصية" وكلمات نحوها..! وكأنهم لا يقرؤون القرآن ولا يسمعون السُنَّة ولا يعرفون السيرة؟!

"الأسلوب له دور" نعم.. هذا خارج كلامي الآن، لكن تلك النبرة المتأففة دومًا من كل نُصحٍ -مهما كان وقته مناسِبًا وأسلوبه ملائِمًا- ليست علامة جيّدة. ووالله لو كان المرء عاقلًا تمام العقل لَقبّل رأس ناصحِه؛ امتنانًا لاهتمامه بعلو درجاته وتقليل سيئاته، لكن سبحان الذي قدّر للناصحين ردود أفعال مختلفة تجاه نصحهم؛ لتتفاوت درجاتهم. وإنّ حرص امرئ على علو درجات أخيه كافٍ للحفاظ على وُده ومجازاته بشكره، فإنّ لكل حسنةٍ وزنها المهم يوم القيامة، حتى لَيرجو الإنسانُ حينها الحسنة الواحدة مهما صغرت؛ لما يراه من عظيم التفاوت وتبدّل المصير. وهذا التفاوت معنى عظيم أشار إليه المولى سبحانه في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ...} [التغابن:0-10]. "يعني: اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله به الأولين والآخرين، ويقفهم موقفًا هائلًا عظيمًا، وينبئهم بما عملوا، فحينئذ يظهر الفرق والتفاوت بين الخلائق، ويُرفع أقوام إلى أعلى عِلّيين، في الغُرف العاليات، والمنازل المرتفعات، المشتملة على جميع اللذات والشهوات، ويُخفض أقوام إلى أسفل سافلين، محل الهم والغم، والحزن، والعذاب الشديد، وذلك نتيجة ما قدّموه لأنفسهم، وأسلفوه أيام حياتهم، ولهذا قال: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ}." [تفسير السعدي]


دعوكم من الغرب وسنفونية الحرية.. الغرب مريض وليس بسعيد! حتى أن أحد مفكريهم ألّف كتابًا سمّاه (موت الغرب) ([3]) أبحث عنه منذ مدّة. الغرب يُشرّع ويُجرّب ويُبدّل... ويعاني مع كل تغيير! ويخالف الفطرة والمنطق السليم، للدرجة التي أفاقت عقلائهم؛ فانتفضوا ناصحين.

أذكر أني شاهدتُ مقطعًا يوتيوبيًا لتجربة اجتماعية في شوارع أمريكا تُمثّل فيه امرأة أنها حامل وتشرب الكحول في الشارع؛ لتُختبر ردة فعل المارة. فمرّ مئات منهم دون أن يقولوا كلمة! في حين توقفت قلّة تُعدّ على الأصابع، تفاوتت أساليبهم في إقناع المرأة بالتوقف عن الشرب، حتى أن آخرهم أوقفها بكسر زجاجة الشرب! في حين كانت المرأة الممثلة تقول لكل ناصح "هذا خياري" "يمكنني أن أفعل ما أريد"...

الحاجة إلى النصيحة دائمة، ولا أكاد أبعد عن الصواب إن قلت: غالب الناس يُقدّم النصيحة-اعترفوا مقرِّين أو كابروا منكرين- لكن تختلف ممارساتهم! واختلاف الممارسة يرجع إلى الموضوع الذي يؤمن الفرد بأهميته، فالآباء ينصحون أبنائهم وبناتهم بالنوم مبكرًا، والمعلمون ينصحون تلاميذهم بالاجتهاد، والأطباء ينصحون بالتزام نظام غذائي وممارسة المشي... الجميع ينصح، لكن الاختلاف في (ترتيب الأوليات). أما المجتمع الذي يخلو من النصح؛ فقد بلغ أفرادُه من الأنانية مبلغًا عظيمًا لا يُمدحون عليه، والانحدار الخُلُقي يرافقهم دون أن يلحظوا، والمحزن أن الآثار السيئة تشمل الجميع.


لنتذكر على الدوام أن من خصائص أمتنا التناصح، قال عزّ وجلّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ} [آل عمران:110] "هذا تفضيل من الله لهذه الأمة بهذه الأسباب، التي تميزوا بها وفاقوا بها سائر الأمم، وأنهم خير الناس للناس، نُصحًا، ومحبةً للخير، ودعوةً، وتعليمًا، وإرشادًا، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وجمعًا بين تكميل الخلق، والسعي في منافعهم، بحسب الإمكان، وبين تكميل النفس بالإيمان بالله، والقيام بحقوق الإيمان. وأن أهل الكتاب، لو آمنوا بمثل ما آمنتم به، لاهتدوا وكان خيرًا لهم، ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل، وأما الكثير، فهم فاسقون..."  [تفسير السعدي]

اللهم حُفّنا بالطيّبين، واجزِ عنّا الناصحين، ولا تجعلنا ضالِّين ولا مُضلّين.

 

جمانة بنت ثروت كتبي

 6 / ١١ / ١٤٤٤هـ

 



([1]) هذه العبارات وغيرها سيقت هنا مساقًا يدل على استخدامها من قِبل مَن يُهوِّن فعل المعصية والتفريط في فعل الطاعة، وبعضها صحيح بنفسه لكن تم استخدامه بتوظيف خاطئ. أو تكون العبارة مُجملة تحتمل معنى صحيح ومعنى فاسد، فينبغي معرفة مراد المتكلم بها أولًا. وأوصي بقراءة كتاب (زخرف القول) الذي تناول عددًا من العبارات المزخرفة لفظيًا مع تضمنها لمعانٍ خاطئة في ميزان الشرع، ومن ذلك: "المسألة فيها خلاف" ص75، "الدنيا تغيرت" ص132، "الإسلام يدعو إلى الحرية" ص174، "الإيمان في القلب" ص332، وأكثرها ارتباطًا بموضوع النصيحة عمومًا "بلا وصاية" ص288، و"لستَ مسؤولًا عن الخلق" ص291.

([2]) هذه الفكرة صحيحة بموازين الدنيا، فالناصح لا يكسب شيئًا من المنافع الدنيوية. لكن بميزان الآخرة هو مكتسبٌ لـ: أجر القيام بطاعة، وإبراء الذمة من الخطأ، ومحاولة إيقاف هذا الخطأ عن الانتشار والمكاثرة، فإذا ظهرت آثار المعصية في الناس كان الناصحون قد أدُّوا الذي لهم ويكون ما يقع عليه من الآثار من الابتلاء المأجورين عليه إن شاء الله. وقد يستفيد الناصح في الدنيا أمرًا، لكنه كذلك مرتبطٌ بالآخرة: وهو أنه ينصح فيوقف مدّ المعصية كيلا يصل إلى بيته وأهله.

([3])  تقييم كتاب موت الغرب - باتريك جيه. بوكانن – على شبكة الألوكة بقلم/ محمود ثروت أبو الفضل: https://www.alukah.net/culture/0/76467/%D8%AA%D9%82%D9%8A%D9%8A%D9%85-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D9%88%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%A8%D8%A7%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D8%AC%D9%8A%D9%87.-%D8%A8%D9%88%D9%83%D8%A7%D9%86%D9%86/

تعليقات