مع مريم



يعينك التمهّل في القراءة على معايشة ما تقرأ، وهكذا في قصص القرآن.. وإني إذا تمهّلتُ في التلاوة وكان المتلو من آيات قصة مريم -عليها السلام- عايشتُ مشاعر متباينة..

(1)

أقواها وأشجنها في قوله تعالى على لسان مريم بعد وضعها: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [سورة مريم:23] فذِكر القرآن لهذه المقولة التي قالتها يجعلني لا أنفك عن تخيل الموقف! ومعايشة الحالة الشعورية لها من الحزن والخوف اللذين اعترَياها حتى قالت ما قالت رضي الله عنها..

"وجملة قالت استئناف بياني، لأن السامع يتشوَّف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعد ما كان أمرها مستترا غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف، فيُجاب السامع بأنها تمنّت الموت قبل ذلك فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها. وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البَلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصِّدِّيقِّية.

والمشار إليه في قولها {قبل هذا} هو الحمل. أرادت أن لا يُتَطَرَّق عِرضها بطَعن ولا تَجُرَّ على أهلِها مَعرَّة. ولم تتمنَّ أن تكون ماتت بعد بُدو الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرُقُها القَالَة." [التحرير والتنوير/ ابن عاشور]

(2)

وعلى النقيض من مشاعر حزنها المؤكد بالنص القرآني عند نهيها عنه... أحاول معرفة شعورها -ولا أدركه بالقطع- حين سَمعتْ بشارة الملائكة لها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران:42] ويظهر أنه مسموعٌ مُبهج، يسرّ الخاطر، ويدعو لحمد الله وشكره.

"ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها، وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت {يا مريم إن الله اصطفاك} أي: اختارك {وطهّرك} من الآفات المنقصة {واصطفاك على نساء العالمين} الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين، إما على عالمي زمانها، أو مطلقًا، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة، لم ينافِ الاصطفاء المذكور، فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها، فلهذا قالت لها الملائكة: {يا مريم اقنتي لربك}.

{اقنتي لربك} القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع، {واسجدي واركعي مع الراكعين} خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله، ففعلت مريم، ما أُمرت به شكرًا لله تعالى وطاعة". [تيسير الكريم الرحمن/ السعدي]

(3)

هذان الموضعان في بداية القرآن ومنتصفه، وأما في آخره وختامه فأقطع أني أشعر بالعزة والفخر حين أصل لقوله جلّ وعلا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [سورة التحريم:11-12] لقد بلغت من القدر عند الله تعالى أن ضرب بها المثل للمؤمنين رجالا ونساءً، وأي عزٍ وفخر أكثر من هذا؟

"{ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها} أي: صانته وحفظته عن الفاحشة، لكمال ديانتها، وعفتها، ونزاهتها. {فَنَفَخْنا فِيهِ مِن رُوحِنا} بأن نفخ جبريل -عليه السلام- في جيب درعها فوصلت نفخته إلى مريم، فجاء منها عيسى ابن مريم -عليه السلام-، الرسول الكريم والسيد العظيم.

{وصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وكُتُبِهِ} وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة، فإن التصديق بكلمات الله، يشمل كلماته الدينية والقدرية، والتصديق بكتبه، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والعمل، ولهذا قال {وكانَتْ مِنَ القانِتِينَ} أي: المطيعين لله، المداومين على طاعته بخشية وخشوع، وهذا وصف لها بكمال العمل، فإنها صِدِّيقَة، والصِّدِّيقِّية: هي كمال العلم والعمل." [تيسير الكريم الرحمن/ السعدي]

 

لنتجاوز المشاعر.. وليكن من همومنا السير على خطى هذه المرأة العظيمة.

 


جمانة بنت ثروت كتبي

11 شوال 1444هـ


تعليقات