المقدم والمؤخر

 

المُقدِّم المُؤخِّر

         جرت الأمور بغير ما خططت، واتخذت مسارًا غير ما توقعت! ويتبدّى في الأفق أني سأخوض في أشياء لم تكن أبدًا ضمن ما جربت! في أثناء هذا كله يغضب المرء ويحزن ويغتم ويُقهر، لكن من حكمة الله تعالى ورحمته أن قدّر الوقوف على التغريدات التالية:



         وفي ضوئها؛ حدثتُ نفسي أن تعرفي على اسمَي الله المقدم والمؤخر، فهذه الخلاصة:

* الله سبحانه وتعالى من أسمائه الحسنى "الـمُقدِّم والـمُؤخِّر": أي "مُنزل الأشياء منازلها" يُقدِّم ما يشاء ويُؤخِّر ما يشاء. و"التقديم والتأخير" وصفان لله عز وجل دالّان على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته.


* هذان الاسمان لله تعالى من الأسماء المتقابلة التي لا يُطلق واحد منهما إلا مقرونًا بالآخر؛ لأن الكمال في اجتماعهما. ولذلك وردا مقترنَين، فقد ثبتا في "السنة النبوية" في ثلاثة أحاديث، سياقها سياق "طلب الغفران للذنوب جميعها" ومن ذلك المتقدم والمتأخر منها. وهذه الأحاديث هي:

1/ حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جِدِّي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدّمتُ وما أخّرت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أنت أعلمُ به مني، أنتَ المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير" متفق عليه.

2/ حديث علي -رضي الله عنه- في وصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه يقول: ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدّمتُ وما أخّرت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت" رواه مسلم.

3/ حديث ابن عباس -رضي الله عنه- الذي فيه ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم حين يقوم يتهجد بالليل: "اللهم لك الحمد أنت قيّم السماوات والأرض ومَن فيهن...... اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمتُ وما أخرت، وما أسررتُ وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المتأخر، لا إله إلا أنت" رواه البخاري -واللفظ له- ومسلم..


* والتقديم والتأخير على نوعين:

1/ كوني: كتقديم بعض المخلوقات على بعض وتأخير بعضها على بعض، كتقدم الأسباب على مسبباتها، والشروط على مشروطاتها.

2/ شرعي: كتقديم الأنبياء وتفضيلهم على غيرهم من الخلق، وتقديم الصالح على الطالح والعالم على الجاهل، وتقديم أعمال على أعمال أخرى في الفضيلة وغيرها.


* من ثمار الإيمان بهذين الاسمين:

1/ ثمرة إيمانية مرتبطة بعبودية القلب: التعلق بالله وحده والتوكل عليه؛ لأنه لا مُقدِّم لما أخّره الله، ولا مُؤخِّر لما قدّمه الله سبحانه. فيقل خوف المرء ورجاؤه في المخلوقين حين يستحضر أن التقديم والتأخير لله جل وعلا.

2/ ثمرة إيمانية مرتبطة بالإيمان بصفات الله: تقوية الإيمان بصفة الحكمة لله تعالى، فتقديمه وتأخيره مبني على علمه التام وحكمته البالغة. فيستحضر المؤمن أن الشيء لو قُدّم له وهو يكره تقديمه فإنما قُدّم لحكمة، ولو أُخِّر له أمر وهو يُحب تقديمه فيُذكر نفسه أنه إنما أُخّر عنه لحكمة، وقد يكون التقديم والتأخير من مظاهر رحمة الله ولُطفه بعبده، لكن العبد لمحدودية علمه ما استوعب!

3/ ثمرة عملية تطبيقية: الحرص على تقديم ما قدّمه الله وتأخير ما أخّره، كتقديم محبة ما أحبه الله على غيره، فهذا هو الميزان الذي ينبغي أن يكون للمؤمن وأن يزن الأمور به. ولذا يُشرع للمؤمن الحصيف أن يتوسل لله جلّ وعلا في دعائه باسمَيه (المقدم والمؤخر) في نيل التقدّم الحقيقي الذي يعود نفعه في الدين والدنيا والآخرة وترك كل ما يُؤخره.


         بعد كل هذا.. وقع الأحداث على النفس تغيّر! إذ يستحضر المرء أن ما هو فيه باب مشروع للتزود الإيماني، واستحضار لأسماء وصفات لله تعالى وربط لها بالواقع ما كان ليكون لولا ما قُدّر من شيء تحسبه النفس مكروهًا، وقد يكون في علم الله خيرًا كثيرًا. فاللهم إنا نعوذ بك من حولنا وقوتنا وجهلنا وضعفنا، ونلوذ إلى حولك وقوتك وعزتك، فاقدر لنا الخير حيث كان ثم أرضينا به.

         جعلني الله وإياكم من المستحضرين لأسمائه وصفاته، ومن الذين يتعبّدون لله وفقها، ومن العارفين حقّ المعرفة بمعنى قول ابن القيم -رحمه الله- في طريق الهجرتين: "فهذه المعارف التي تحصل للقلوب بسبب معرفة العبد لأسمائه وصفاته، وتعبده به لله لا يحصل العبد في الدنيا أجلّ ولا أفضل ولا أكمل منها، وهي أفضل العطايا من الله للعبد، وهي روح التوحيد ورَوْحه.." فلنسأل الله من فضله.

 

 

 جمانة ثروت كتبـي

29/ 11/ 1443هـ


يراجع:

-      فقه الأسماء الحسنى، عبدالرزاق البدر، ص331-335.

-      ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، عبدالعزيز الجليل، ص701-707.

-      أسماء الله الحسنى.. جلالها ولطائف اقترانها وثمراتها، ماهر مقدم، ص218-220.

 

تعليقات