ولو بابا واحدا


 

ولو بابًا واحدًا

         يُحزنني كثيرًا أن أتذكر أن سبيلي قد افترق عن إنسان وهو يعرفني في نسخةٍ سابقة، قد عملتُ تاليًا على تهذيبها وتحسينها... فأجدني كلما استجد ذكرى هذا الحزن أجدد العهد بتحويله إلى مبدأ وقناعة. أما المبدأ فأن أجاهد نفسي على منح الأشخاص المخطئين أكثر من فرصة، فلطالما تمنيتُ لو أتيحت لي حينًا؛ واحدة. وأما القناعة فهي أن الإنسان أكثرُ من مجرد موقفٍ واحد، حدث منذ وقت طويل! فالإنسان يتغير.

         لا يصعب أن يستحضر المرء منا أحداثًا تمنى لو تصرف فيها بغير التصرف الذي صدر منه، أو أشخاصًا رغب لو يُمكّنونه من أن يُبين لهم عن صلاح حاله وتغير مقاله، وفي كل مرةٍ أستحضر مثل هذا الموضوع أتذكر أيقونة التراجع التي يتيحها برنامج الوورد كخاصية؛ تُشعر المستخدم في كثيرٍ من الأوقات الصعبة بامتنان كبير.

صحيح أن الحياة لم يجعلِ اللهُ -بحكمته وعلمه- فيها شيئًا كهذا، فالله تعالى منزّهٌ عن العبث الذي يلزم إتاحة مثل هذا، فلو كان الرجوع بالزمن مسنونًا في الدنيا لعبث الناس وأفسدوا وما استقام لهم حال! لكنه سبحانه -بحكمته وعدله ورحمته- شرع للناس مُكفِّراتٍ للذنوب التي يقترفونها، فجعل بهذا لابن آدم أبوابًا مُشرعةً من الأمل، والتي تبعثه على العمل، وتُمضيه للأمام.. بسلام وبلا سأم. فما التوبة والاستغفار إلا إتاحةٌ لفرصٍ أخرى لا منتهى لها إلا بالموت، وما التائب والمستغفر الصادِقَين -في ميزان الله- إلا هما بعدها لا قبلها.

فلِمَ لا أعطي فرصة؟ ولمَ لا أجدد التعرف على آخر نسخة؟

وفي نصوص الوحي ما يُذكرني بهذا المعنى... لكن أكثر ما أعدّه قاعدة مرشِدة للتعامل مع الخطأ الشخصي الذي أرتكبه تجاه الناس، قاعدة "أتبِع السيئةَ الحسنة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ." [رواه الترمذي] فعليّ وعليكَ محاولة استقامة الحال في أي مكان وزمان، ثم حين الزلل الذي لابد هو واقع، فالتوجيه هو هذا الإتِباع الذي يكون مستمرًا، ومع أن الناس ليسوا كمثل كرم الله في محوه للذنوب في شيء، لكن قد يكون إتِباع الحسنات سبيلًا لإعادة النظر أو محو بعضَ الزلل.

كنتُ على قناعة كبيرة بأن الإنسان الذي يعفو ويغفر زلّات الآخرين وخطاياهم تجاهه هو كريم الخُلق والخصال، وأحسبُ أن يجازيه الله عز وجل على عفوه وسعة قلبه، فهل جزاءُ الإحسان إلا الإحسان؟ وتوطّدت هذه القناعة حين رأيت ابن القيم -رحمه الله- يشير إلى ذات المعنى في كتابه (طريق الهجرتين) فقال وهو يتحدث تقريبًا عن العبر التي من المفترض أن يعتبر بها الإنسان بعد أن يقع في الذنب والمعصية: "أن يعامل عباده -أي: عباد الله- في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعاملَه الله به. فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعَه الله بذنوبه." فمَن أحب أن يعامله الله بعفوه وكرمه؛ فليعامل الناس المخطئين في حقه بذلك، فهذه المعاملة مظنة أن يكون جزاؤها أكرم من غيرها.

لا شك أن الأخطاء متفاوتة، وأن قدرة النفوس البشرية على العفو عن بعضها أشدُّ تفاوتًا، لكن المؤمّل أن يحاول المرء قدر وُسعه أن يكون مع الناس كما يريدُ منهم أن يكونوا معه، فبما أن العصمة منتفية، والأخطاء ورادة، والأمزجة متقلبة، فخيرٌ للحصيفِ أن يجعل لغيره بابًا مفتوحًا يلج إليه ليتحصّل به فرصةً أخرى. عسى أن يُجزى بذلك من الخير الأخروي ما لا يحتسب.



جمانة ثروت كتبي

رمضان 1442هـ



تعليقات

  1. ما شاء الله تبارك الله بالفعل 🥺🥺
    من أجمل المقالات التي قرأتهااا والله
    سلمتي أستاذة ونفع الله بك الأمة ❤️❤️🥺

    ردحذف
  2. ماشاء الله تبارك الله أستاذتنا الفاضلة يوركت فلا أجد أجمل عنوان لمقالك الرائع وهو( إلا من أتى الله بقلب سليم )

    ردحذف
  3. ماشـاء الله بورك فيكِ وزادك علما وحرصا
    مقال أكثر من رائع

    ردحذف
    الردود
    1. آمين، جزيتِ خيرًا لدعواتك الطيبة

      حذف
  4. رائع جدًا سلمت أناملك وبارك الله فيك ونفع بك

    ردحذف

إرسال تعليق