ستة دروس للإنجاز

 



ستة دروس للإنجاز

مدخل: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" هكذا قال عليه الصلاة والسلام [رواه مسلم] "حديثٌ عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراسًا له في عمله الديني والدنيوي" [ابن عثيمين رحمه الله]([1]).


في بداية عام 1442هـ تطلّبتُ الاستماع إلى نصائح والوقوف على مواد أبتغي منها سُبل الإنجاز، لكني اشترطتُ على نفسي ألا أُكثِر التطلّب وأن أقتصر على ما ألمس نفعه، بعمق تأثيره النفسي أو قابلية تنفيذه العملي. وبما أن الوقت يشارف بدء سنة جديدة من حيث توضع على إثرِها المخططات، فمن الدلالة على الخيرات تلخيص ما استفدتُه من دروسها؛ ومحصّلتها ستة:

الدرس الأول/ ماهيّة التسويف: فلابد أن يُدرك بأنه آليةٌ نفسية نستخدمها للهرب من مشاعر سلبية، كالقلق والخوف. وقد يأتي أحيانًا بصورٍ أخرى مخادِعة، كانتظار المزاج الجيد أو الحماسة الملائمة، واللذَين لن يأتيا غالبًا؛ لأنهما من صور الكذب على النفس كما تخبرنا [أ. ليلى العصيلي] في تجربتها مع التسويف([2]). فأن نفهم حقيقة التسويف وأننا به نهرب خوفًا من الخوف والقلق؛ لا يُبقِ هذا الفهم أمامنا إلا خيار مواجهة المهام، خصوصًا إذا استحضرنا فضيلة المبادرة لما كان صالحًا أو حسنًا أو خيِّرًا من الأعمال.

الدرس الثاني/ شجاعة البداية: فكرة هذا الدرس أن علينا فقط أخذ المبادرة بالخطوة الأولى، بأن تبدأ مجردًّا عن التفكير في نهاية الطريق! فقط البدء وإعطاء النفس فرصة للدخول في جوّ المهمة المطلوبة، مع تكرار العملية بشكلٍ يومي، تتطور الخطوة الأولى للأداء من عشر دقائق إلى عشرين دقيقة إلى ساعة ثم ساعات... ولا حاجة لتوّهم أن نقطة الانطلاق لابد أن نكون فيها مستعدّين بشكل كامل! وهذا ما يسميه [أ. أسامة الجامع] بـ(الجاهزية القصوى)([3]) التي تُسبب مماطلةً معيقةً عن إنجاز العمل، فلا حلّ لها إلا بما لخّصته لي رفيقتي أم مالك [أ. أسماء صبرة] بقولها فيما جرّبَته: "ابدأ؛ وسيتكشّف لك الطريق".

الدرس الثالث/ الموقع الحقيقي للمرح: الراحة وممارسة ما يرتاح له المرء من المباحات، يعتبر ضرورة نفسية، لكن في ذات الوقت من أكبر المعيقات عن الإنجاز؛ ولحلِّ الإشكال لابد من إعادته لمكانه المناسب فلا تستمر إعاقته، وذلك بإزاحة وقته من قبل المهام إلى ما بعدها؛ ليكون بمثابة المكافأة المستحقّة للنفس بعد تمام الواجبات، ليصبح مرحًا بلا تأنيب ضمير([4]). وبهذه الإزاحة يمكن ببساطة الاستغناء عن وقت المرح حين تتطلب المهام تضحيةً وسرعة إتمام، ولا يعود المرء أسيرًا لسُبل ترفيهِه كما يكون حالُه حين يبدأ بها.

الدرس الرابع/ محورية التركيز: وضده التشتت، ففي حين أن لديك هدفًا مهمًا تسعى إليه لا يستقيم الحال أن تلتهي بغيره معه، سواء كان هذا الغير أعمالًا أخرى أو معوقات من قبيل تثبيط البيئة أو سخريتها، ويسمي [د. نوح الشهري] هذا الدرس بـ(استراتيجية مسك الخط)([5]). وإذا كان ما يشتتك أعمال أخرى فكخطوة عملية يُقترح عليك استخدام طريقة (الجدولة العكسية)([6]) بأن تحدد أوقات جميع الأنشطة اليومية وتتقيد بحدودها الوقتية، ثم تترك بقية اليوم -وهو الأكثر- للعمل المراد تحقيقه، وتكون هذه البقية مقسّمة على جلسات، تتسم كل جلسة منها بتركيز لا ينقطع إلا لاستراحة يسيرة قبل الشروع للجلسة التالية.

الدرس الخامس/ العلاج بالسطر الجديد: يفيدنا به [د. إياد قنيبي]([7]) وهو قرار يُؤخذ بعد أي عملية تسويف أو مرح معيق، أو طارئ عارض! فكل ما أوقف مسيرنا بشكل كنا معذورين فيه أو لا؛ لابد أن نضع -بعد هذا الفشل المتمثل في توقفنا- "نقطة"، ثم نبدأ سطرًا جديدًا في الأداء، دون كثيرِ توقف مع لوم النفس لومًا قارعًا هو بذاته عائقٌ محطم عن العمل! فالإحباط الذي ينخر في نفسك قائلًا: "لم تنجز شيئًا اليوم أي أنك لن تنجز غدًا.. لا فائدة منك فأنت دائمًا تتوقف" ونحوها من المحادثات الذاتية لابد أن تُجابَه بالنقطة التي تقول "انتهى"، ثم تُتبَع بالسطر الجديد؛ لأن الاسترسال مع الإحباط أشبه بِكرة ثلجٍ تتضخّم.

الدرس السادس/ الكمال: الحقيقة إنه الدرس الأول والأخير، أن السعي للكمال سعيٌ وراء الخيال، فالإنسان بنفسه غير كامل باعتبار افتقاره إلى غيره، وما يصدر عنه متسمٌّ بسماته، فأعمالنا ومشارعينا ناقصة بنقصاننا، وكمال أي عمل بشري -حين يُوصف به- إنما هو كمال نِسبي في جهة من الجهات. المشكلة أن إرادة الكمال تُصوّر المهمة المطلوبة أصعب بكثير مما هي عليه حقيقة، وهذا ما يجعلنا نلجأ للتسويف، والذي سيُشعرنا بالخيبة وعدم الإنجاز، لتصبح هذه المشاعر كرةَ الثلج التي لا نريدها في النهاية.

إذًا نبدأ بضروريات أعمالنا اليومية، ثم نتشجع لعملنا المستهدَف بتركيزٍ شديد لا يُقطع إلا بمقداره المحسوب لأجل استراحةٍ قصيرة. ثم يُختتم العمل بما تستريح النفس إليه من المباحات والهوايات، وأي خلل في سير العمل هذا فلا بأس؛ لأننا سنستأنف فرصةً جديدةً، متيقنين -مع سعينا بالأسباب- بانتفاء الكمال.


مخرج: "وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله، وما شاء فعل" إكمالًا لحديثِ المدخل، يقول الشيخ ابن عثيمين: "فالإنسان إذا بذل ما يستطيع مما أُمر ببذله، وأخلفت الأمور؛ فحينئذٍ يفوِّض الأمر إلى الله" وحينئذٍ ينفتح بابٌ آخر للتعبّد لله تعالى، فكما تعبّدَه المسلم المتوكل ابتداءً بحسن التوكل والأخذ بالأسباب واستفراغ الجهد لها؛ يتعبّدُه بعد حصول ما لم يرجوه بعبودية الرضا بالقدر والتأمل في الحِكَم؛ {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] وتلمّس الحِكم فيما نكرهه موصلٌ إلى عظيم هداية هذه الآية الكريمة، فمَن لم يتحقق مبتغاه ولم يصل لما يرجوه بسعيه، هو بعد كل وقته وجهده المبذولَين مختلفٌ عنه قبلهما من حيث التجربة والخبرة، أليس هذا من الخير؟ وهو في إيمانه وقت استعان بالله ولجأ إليه ودعاه وأظهر له ضعفه وحاجته مختلفٌ في إيمانه قبل ذلك، أليس هذا من الخير؟ وهو في مجاهدة نفسه على الرضا واستحضاره كمال علم الله وحكمته مختلفٌ عن مجرد معرفته النظرية بهذه المعاني من دون تجربة سابقة تربيه عليها، أليس هذا من الخير؟ بلى، بلى، بلى.

لابد أن ندرك أن (الإنجاز) في معيار المسلم له أبعادٌ متنوعة، تتسامى أن تقتصر على ماديّات الحياة الدنيا، فهناك إنجاز الاستغلال النافع للوقت، وإنجاز كفّ الأذى عن الناس بالعكوف على الأهداف، وهناك إنجاز الرقي الإيماني بالعبوديات القلبية التي تُمارس أثناء الطريق، وغيرها. قال تعالى: {.. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة:200-201] فلتشمل نظرتنا إنجازات الدنيا والآخرة، ولنسأل الله من خيرهما.

 

كتبته: جمـانة ثـروت كتبـي

26 / 12 / 1442هـ



([1]) شرح رياض الصالحين، (2/79)، ط مدار الوطن للنشر.

([4]) انظر للمقطع اليوتيوبي/ كتاب The Now Habit - عادة الإنجاز: https://www.youtube.com/watch?v=Rm3GSK_yp5I&ab_channel=AliMuhammadAli

([6]) انظر للمقطع اليوتيوبي/ كتاب The Now Habit - عادة الإنجاز.

([7]) انظر مقال/ نقطة.. سطر جديد: https://www.facebook.com/eyadqunaibi/photos/a.1414728445422520/2824063611155656


تعليقات

  1. جميل تبارك الله جزاكِ الله خير الجزاء مقاله رائعه ما شاء الله زادكِ الله من فضلهِ استمري سفيرة الخير 👍🏼🌹

    ردحذف

إرسال تعليق