مبادرة وحرص




مبادرة وحرص


         قرأ شيخ البلاغة محمد محمد أبو موسى سؤالًا مكتوبًا وَرَدَه: "الحاجة ماسة إلى بيان العلاقة بين التناسق و" فقطع الشيخ قراءته للسؤال وعلّق مجيبًا على السؤال الذي فهم مراده دون إكماله: "ما تِقْرا يا اخي! ما تِقْرا يا اخي، ما تِقْرا التناسق والتناسب! وما دام الحاجة ماسة اتفضل اقرا!" ثم أكمل موضحًا أن هذا من "البلاء اللي احنا فيه".([1])



         هذا المقطع تحديدًا أردتُ بعثه إلى الطالبة التي كتبت لي على استمارة جوجل درايف التي خصصتُها لمعرفة انطباعات طالباتي وآرائهن حول جودة المقرر ونصائحهن لتحسين أدائي، إذ كتبَتْ: "لفهم المادة يجب تحليلها الى خريطة مفاهيم لتسهل على الطالبة" ففور قراءتي لتعليقها أجبت لا شعوريًا أمام حاسوبي محاكيةً لهجة الشيخ: "ما تِعْملي الخريطة يا اخْتِـي!" وذلك لأنني تقصّدتُ ألا أرسل إليهن أي ملخص أو رسم سهمي استعملته أثناء الشرح، مكتفيةً بالحسّ الطبيعي لدى الطالب الحريص والذي يملي عليه أن يرسم ما يُرسم على السبورة لدفتره لكي يستفيد! ففي أول فصل دراسي مارستُ فيه التدريس ولطالباتٍ جديدات العهد بالحياة الجامعية؛ حرصتُ على إعداد ملخصات مختلفة لأهم ما في المنهج؛ وغالبها كان على هيئة رسوم سهمية. أما في الفصل الثاني ولمقرر مختلف، رأيتُ أني لو مارستُ نفس الفعل لكنتُ حرمتُ طالباتي القيام بمهمة مهمة لهم؛ فأن تتلقى التلخيص المعد سابقًا يختلف كثيرًا عن أن تقوم أنت بالتلخيص بنفسك ولنفسك. إضافةً إلى أن تلخيص الطالب يعني أنه سيقوم بإشراك أكثر من حاسة، سواءً كان ذلك أثناء الدرس مباشرةً أو أثناء عملية الاستذكار تاليًا.

         وجديرٌ بالذكر أني لم أشأ إعطاء طالباتي تصورًا ورديًا أن إعداد ملخص للأفكار المركزية المهمة هو من واجبات الأستاذ الطبيعية؛ فالأصل أن الطالب الجامعي مسؤول عن نفسه في فهمهما واستذكارها وسلوكها. ومع أن المرونة والفهم والمراعاة أمور مطلوبة من الأستاذ الذي هو إنسان قبل أن يكون أستاذًا؛ إلا أن الواقع -إضافة للتنظير- كثيرًا ما يُثبت للمنتبه أن خير الأمور أوسطها.

         ما الفكرة التي أحوم حولها؟ لابد في بعض الأمور -خصوصًا الجادّة- أن نخوضها بأنفسنا لننتقل من مستوى المعرفة النظرية إلى مستوى المعرفة العملية؛ فعندما نقرأ عن (كيفية كتابة مقال) ليس مثلما نحاول تطبيق تلك الكيفية! وعندما نقرأ عن (طريقة إعداد التشيز كيك) ليس كما ندخل المطبخ ونبدأ في إعداده! هذا الانتقال في المستوى يصحب معه خبرات أخرى قد تكون غير مقصودة! فالطالب صاحب الحاجة الماسة لو قرأ بنفسه لعرف معلوماتٍ أخرى أكثر من مجرد معرفة الفرق بين التناسق والتناسب، والطالبة ذات اقتراح خرائط المفاهيم لو مارست بنفسها لاكتسبت مهارة فرز المعلومات الرئيسية من المعلومات التي يمكن الاستغناء عنها، ولاكتسبت مهارة التلخيص بإعادة صياغة الجمل أو على الأقل تدربت على اختصارها، ولَتعلمت بعد ذلك كله أن تُبادر بنفسها وتعتمد عليها بدل أن تظل الطرف الذي يترقّب فعل الآخرين في أمرٍ يخصه وينفعه هو لا غيره!

         أجد أن من الشخصيات الملفتة للنظر في وقتنا الحاضر، كل شخصية تُدرك التحديات المتزايدة على الفرد ومسؤوليته تجاه نفسه ومَن يعول، والتي تحثّه على مزيدٍ من تطلّب الخبرة الواقعية والممارسة العملية، مما يزيد من رفع كفاءته ورفع أمته. باختصار: الشخصية التي هي حريصة على ما ينفعها، ليس بالمعنى الأناني أو المادي الذي تريده بعض المذاهب الفكرية المعاصرة! وإنما بالمعنى الذي تُعلّمنا إياه مشكاة النبوة وميزانها، إذ يقول سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز.."، ([2]) قال ابن القيم -رحمه الله- معلِّقًا على الحديث: "سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به" ([3]). وتأمَّل توجيهه للحديث بقوله: "في معاشه ومعاده" تُدرك أن المطلوب هو حرصك على نفعك الدنيوي والأخروي وأسبابهما، مع الاستعانة بالله في الشأن كله.([4])

         دعونا لا نحرم أنفسنا ممارسة ما ينفعنا ثم ينفع بنا -ولو صغرت قيمته بمقاييسنا-، دعونا نكن أفرادًا واعين بقدر أنفسهم ورسالتهم للبشرية، دعونا نعمل بالقيم التي تميزت بها الشخصية المسلمة المتكاملة، المتمثلة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، من معاني الإحسان والإتقان والحرص والبِدار على كل ما ينفع. ثم أرِنا منكَ ما تُحسنه.


جمانة بنت ثروت كتبي
الأحد 21/11/1441هـ




([1]) رابط المقطع: https://youtu.be/w-1pBvrs6lw
([2]) جزء من حديث رواه مسلم (2664).
([3]) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص (19). ط/ دار المعرفة.
([4]) انظر كذلك للفائدة: قواعد نبوية، عمر المقبل، ص (144-150). ط2/ دار الحضارة.

تعليقات

إرسال تعليق