ذاكرة القراءة.. الكتب وصناعة المواقف



ذاكرة القراءة

الكتب وصناعة المواقف


         يتفنن محبو القراءة في طُرق إغراء غير القراءِ بدخول عالم القراءة، ما بين حديث عن أثر القراءة على مستوى الفرد والأمة، وحديث عن متعتها واستغلالها للأوقات المهدرة فيما يفيد أو فيما يُمتع، وقبل ذلك كله ذِكرٌ لديباجة منمّقة حول فضل القراءة ومنزلتها. تتنوع الطرق -ومنصّاتها-.. وكل طريق تضم إليها قرّاءً جددًا؛ يُجربون فيعشقون... ثم ينفصلون أو يستمرون! يُحدد استمرارية العلاقة صِدقها أمام العوائق والأزمات.

         خطر ببالي أن أحاول كسب قرّاء جدد بمسلكٍ مختلف قليلًا، إذ لديّ العشرات من المواقف التي يمكن استثمارها في إيضاح فكرة أن: الكتب تصنع مواقف جميلة! أستطيع سرد المواقف بلا تكلّف؛ لعلوقها في ذاكرتي مع بساطتها.

         إذ لا أزال أذكرُ أولَ كتابٍ طلبتُ من والدي شرائه لي (صيد الخاطر) لابن الجوزي، فلما اصطحب الأسرة جميعًا إلى المكتبة كان أن حدث ما لم نعتده مع تلك المكتبة الشهيرة؛ انقطع التيار الكهربائي؛ أما كيف تعرفتُ على صيد الخاطر؟ تعرفتُ عليه إثر توصيةٍ من إحدى الأعضاء في زمن المنتديات الثقافية، إذ يكتب الكاتبون الخواطر والموضوعات، فيُعلق الباقون بالنقد أو الثناء.. ويا لها من أيام لم أتصور أن تنتهي بشبكات التواصل!

وأذكر أول كتابٍ اشتريتُه بمصروفي الخاص بعد جمعه وتوفيره من مصروف المدرسة، كتاب (استمتع بحياتك) للعريفي بـ(27 ريالًا) لا أنساها ولو أردت! فقد تطلب تضحيةً ببعض الوجبات المدرسية، وأي تضحية توازيها في ذلك العمر الخفيف الهموم؟

         ولعل أطرف المواقف الكُتُبية الجامعية.. ما فعلتُه مع صديقتي نجوى -التي تسكن قُرب مكتبة مشهورة بعيدةٍ عن منزلي- إذ أحضرت لي (شرح رياض الصالحين) للشيخ ابن عثيمين -6 أجزاء- في الجامعة، ففي كل يوم تأتي بمجلد واحد، فتضعه في قاعةٍ دراسية حددناها، في درج من أدراج المكتب المخصص للأساتذة، فكنت أمرّ كل يوم إلى المكان المحدد لأستلم مجلدًا؛ حتى اجتمعت الست مع بعضها بعد حملٍ وجُهد وتخطيط!

         ومع عودة انعقاد معرض الكتاب بجدة، لا أنسى شعوري بالغفلة وقلة الخبرة، بعد أن وافقتُ على شراء (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس بـ(250 ريالًا) دون أن أحاول المفاوضة أبدًا! -نعم.. يا للغباء-.

وأما أول كتابٍ اقتنيتُه لزميلتي ابتهال أحمد (دُونَك أي حبٍ يكتمل؟) والذي بثّت فيه بعض مشاعر اليُتم الأبوي، وما يعتري ذلك من أحاسيس عميقة، لكن لم يكن اقتنائي له بالطريف! فوالد زميلتي الأخرى بيان هو المتكفل بإحضار طلباتي من معرض الكتاب، وقد أتم قائمتي بسعادةٍ وكرمٍ بالغَين كما وصفت لي بيان، حتى وصل إلى كتاب ابتهال.. فكان العنوان مثار تساؤلٍ محرجٍ حول محتواه، مما تطلب الشرح والتوضيح حول مغزاه.

ومن أجمل المواقف التي ينبغي استحضارها وتكرارها بشكل مقصود، ما ترتب على كتاب (السيرة النبوية) لمحمد الصوياني من تفاعل عائلي في المنزل، إثر قيام غالب أفراد الأسرة بقراءته، والتعليق الوجداني حول أبرز المواقف التي تأثر بها كل قارئ، ثم التسابق على شرائه وإهدائه للمهتم بالقراءة، حتى أن بائع المكتبة وقتها إذا شاهد خطوات أخي إليه قال: "السيرة النبوية للصوياني؟".

أما الكتب التي فقدتها نتيجة الإعارة.. فلا حاجة لتقليب المواجع. وأستبدلُ الحديث عنها بالإشارة إلى الكتب التي بعد البدء أقرر قراءتها بعيدًا عن الأنظار؛ فلا يبعُد أن تتسرّب مني دمعاتٍ لا أملك حبسها..

         وهكذا كل كتاب، هو أبعد من محضِ معلومات تقرؤها! إنها مفرادتٌ تُبهرك فتستعملها، وأساليبُ تُقنعُك فتقتبسها، وأفكار يتشرّبُها عقلك فتتلبّسها... وفي أثناء ذلك -أو قبله أو بعده- مواقف تحدث فتستثمرها. انظروا فالموضوع كذلك أبعد من كل ذلك! فمع كلِّ موقف هناك درس تعلمتُه، أو قرار اتخذتُه، أو عبرة اعتبرتُ بها، أو فكرة عملتُ بها...

         لقد حاولتُ إغراءكم بجمال عالم القراءة وثراء مواقفها، مما يدور حول الفكرة القائلة: (حب القراءة لا يأتي بالتعليم. إنه شيء ينبع من داخلك بالمعاشرة والتجربة الذاتية) ([1]) فانظروا كيف تكون تجاربكم؟


جـمانة بنت ثـروت كتبـي 
الأربعاء 29/8/1441هـ


([1]) 27 خرافة شعبية عن القراءة، د. ساجد العبدلي، عبدالمجيد تمراز: ص86.




تعليقات