قصة شخصية ودروس عامة




قصةٌ شخصية ودروسٌ عامة

         مدخل:

على خلاف عادتي والقوانين التي وضعتُها لنفسي -التي لا أخالفها إلا قليلًا-، في ذلك الصباح "المهم" ذهبتُ دون أن أجهز كثيرًا من الأوراق المطلوبة!

         علّمتني والدتي نصحًا وتوجيهًا وعلّمني والدي عملًا وتدريبًا: أن أركز وأستعد دائمًا، فإذا طُلبت مني مهمة لابد أن أنتبه لوصفها جيدًا ثم أؤديها قبل وقتها تحسبًا للطوارئ والظروف، وإذا كان لدي موعد فلابد أن أنتبه لوقته وأكون مستعدةً قبله تحسبًا للطوارئ والظروف أيضا، وهكذا. لكن... يا للعجب! لقد نسيتُ أصلًا أن هناك أوراقًا مطلوبة لأجل اختبار الوظيفة التي لطالما تمنيتُها منذ أن عرفتُ هدفي وما أريد.


         الفصل الأول:

         لقد صُدمتُ حقًا من نفسي ذلك الصباح، وفي حين كان ينبغي أن أهدأ وأراجع بعض المعلومات، صرتُ أهرول في الأروقة حتى أصل للمكان الوحيد الذي يمكن أن أطبع فيه ما بقي من أوراق، وحين وصلتُ تحولت الصدمة من نفسي إلى يأس غامر.. فالمكان طابور، ولا أدري هل جميعهن نسين مثلي؟ أم خططن ابتداءً للطباعة من هنا؟ أم شيء ثالث؟ وعلى يأسي وتوقعي للأسوء؛ لم يكن من بُدّ إلا الانتظار.
         حين وصل دوري زاد الأمر تعقيدًا، إذ نسيت -على غير عادتي أيضا- كلمة السر التي لا أستطيع طباعة إحدى الأوراق المهمة بدونها! وأعجبُ من ذلك -والله- أنني كذلك نسيتُ أن أدوّن كلمة السر في المكان الذي خصصته لكتابة كل كلمات السر لكل شيء يستلزم سرًا!! حاولتُ -بائسة- تغيير كلمة المرور، لكن الموقع رسمي وله شروط متعددة في كلمة المرور يصعب عليّ في تلك الحالة الكئيبة أن أفكر فيما يطابقها. بعد محاولات.. أيقنتُ أني لا أستطيع الطباعة ورأيتُ أني تأخرت -على غير عادتي- عشر دقائق عن الاختبار، فقررتُ أن أتوجه للاختبار دون الورقة المتبقية.
         في الطريق إلى قاعة الاختبار -والتي ذهبتُ إليها ركضًا- كنتُ أفكر: "يبدو كل هذا النسيان إشارة إلى أن هذا ليس بمكاني، ولا أستحقه.. فكيف أنسى كل هذا؟ ومتأخرة أيضاً!!!!! ماذا سأقول عن الورقة المتبقية؟ أنا لا أحب الترجي للمراعاة خصوصًا لو كنتُ أنا المخطئة كما الآن؟"

         وصلتُ أخيرًا... وإذا المسؤولات لم يُطالبن أحدًا بالورقة المتبقية..! "الحمد لله، نجّاكِ الله يا جمانة فليكن درسًا لكِ لا تنسيه" حدّثتُ نفسي. دخلتُ خجلةً أنظر إلى الأرض "كيف أريد هذه الوظيفة التي تستلزم الانضباط في المواعيد وقد تأخرت 15 دقيقة؟ لا يهم إن كانت: حدَثًا استثنائيًا أو عارِضًا بشريًا... فلا يزال الخطأ خطئي".
         جلستُ.. واستلمتُ ورقة الأسئلة وكرّاسة الإجابة.. الآن ماذا؟ قلبي يخفق بشدة! متعبة من ركضي، مصدومة من نسياني، متوترة من تأخري، وأشكُّ من استطاعتي في الإجابة عن كل هذا وقد تأخرت..
         نظرتُ للأسئلة لتقدير مستواها بالنسبة لي.. وهاكِ صفعةً أخرى، هناك سؤالان أزعم أن مستواهما مختلف عن بقية الأسئلة، إنهما ليسا سؤالين إن أخّرتُ حلهما إلى النهاية فقد أتذكر الإجابة، لا، بل هما سؤالان سأقدم إجابة اجتهادية لهما، فلستُ متأكدة منهما.
         تناولت الكأس البلاستيكية الصغيرة التي قُدِّمت لي وفيها القهوة العربية.. سميتُ بالله.. هدّأتُ نفسي.. رددتُ أذكاري.. ذكّرتُ نفسي "لِـمَ أنا هنا؟". وقبل أن أبدأ ألقيتُ نظرة على الوضع في القاعة، ويا لعجبي.. هناك الكثيرات كراريسهن مغلقة، قد وقفت أقلامهن عن الكتابة! هذه الأسئلة يقينًا لا تُحلّ في 20 دقيقة.. مع الأسف، لابد أنهن قد استسلمن. أظن أن أسئلة الوظائف مخيفة حتى تختبر -أولًا- ردة فعلنا، كأنها تقول: (ها.. تستمر ولا تنسحب؟)
         "لقد يسّر الله لكِ ما سبق، حتى وصلتِ إلى هنا، فلا يليق بكِ -إن كنتِ صادقةً- ولا يليق بأهلكِ الذين تحمّسوا لأجلكِ أن تتوقفي الآن" بسم الله، وبدأتُ الحل...
         كتبتُ إجاباتي متأرجحةً بين التأكد منها وبين الاجتهاد فيها، حتى انتهيتُ فراجعت، ثم سلمت.

         انتهى الأمر.. تعلمتُ درسي جيدًا وأرجو ألا أكرر هذه الأخطاء. لقد تمنيتُ هذه الوظيفة مُحِبّةً لها؛ أخذتُ بالأسباب إلى النهاية مع خللي وتقصيري. حسنًا يكفي فإلى هنا انتهت القصة عندي ووفق "حساباتي".


         الفصل الثاني:

         (ألف مبااااااااااااااااااارك ترشحك حبيبتي.. فالك التوفيق يا رب) هكذا أرسلت لي إحدى صديقاتي على الواتس!
ايش؟ ترشحت للمقابلة؟!! فتحتُ الرابط الذي أرسلته صديقتي، ولم تكن واهمة فقد كان اسمي الرباعي موجودًا، مع عشرة أسماء طيبة متفوقة تشرّفتُ بمعرفة معظمها من قُرب علاقة أو مع بُعدها.
         نسبح الله ونحمده كثيرًا، لكن هناك لحظات معينة في مواقف محورية؛ تسبح فيها قلوبنا وتحمد قبل ألسنتنا، من شدة التعجب والانبهار بقدرة الله تعالى ومُلكه لكل شيء. وهذا الموقف عندي أحدها... سبحان الله الفعّال لما يريد، والحمد لله الذي هو على كل شيء قدير!
الآن.. استئناف للأخذ بالأسباب، فاستعداد للمقابلة، بالبحث عن معناها والهدف منها. مقطع فمقطعين فثلاثة، ثم مقالة قصيرة واستشارة هنا وهناك.. حتى اكتمل التصور لأمر لم أفكر فيه بجد من قبل.

وقدّر الله في فترة استعدادي هذه؛ أن يقع سمعي وبصري على أحاديث تتعلق بتأثير (الواو) في نيل الوظائف، والوقوف على كلام أناس يقولون (لا تتعبوا نفسكم تراها محجوزة) ونحو هذا. وحان الآن موضع اختبار جديد: أستمع إلى كلام الناس النابع من تجاربهم المتعددة، فأحفظ وقتي بالعودة لمهامي والتزاماتي؟ أم استمر ببساطة إلى النهاية؟
الحمد لله.. لقد عملتُ بدرسٍ من أهم دروس العقيدة التي أحببتُ دراستها طوال أربع سنوات، وهذا الدرس العقدي يقول: (مع أن الأقلام قد رُفعت والصحف قد جفت؛ إلا أن المتوكل على الله حقًا؛ يأخذ بالأسباب ويُعلِّق قلبه بالله.) إذًا.. عليّ الإكمال.


الفصل الثالث:

         استعديتُ -وفق قوانيني المعتادة- ولم يفتني إلا: النوم الجيد ليلة المقابلة، والإفطار الـمُشبِع في صباحها، لأجلس على لحم بطني إلى قُرب الظهر، فدوري كان قبل الأخير.
         تأخُّر دوري -وتّرني- لكن ذلك كان مغنمًا، إذ أتاح لي الجلوس مع الجميع بالقدر الكافي.. تحدثنا، راجعنا بعض المسائل، تبادلنا القصص والحوارات، تعرفنا على مختلف الشخصيات.. كانت ساعاتٍ معدودات، لكن طيبات؛ حصل فيها من الألفة ما يسرّ حقًا. بالتأكيد كان لكل قلبٍ رؤاه الخاصة، وأهدافه المتقدة، وطموحاته المتوهجة.. وكذلك يربي الله كل فردٍ منا بما يعلم سبحانه أنه في نطاق استطاعته.
كنتُ أحدثهن وأنا بداخلي قلقة حول ما أختارُ قراءته من آيات، فما خططتُ بيني وبين نفسي أن أقرأه؛ تلته إحدى مَن سبقني دورها، فرأيتُ أنه لابد من التغيير. وكان من المتوقع أن يتم السؤال عما له علاقة بالآيات التي تتم تلاوتها، فكيف أقرر الآن ما أتلوه؟
قلّبتُ الخيارات في رأسي: هذه الآيات؟ لا، هذه السورة القصيرة؟ لا؛ وفي كلٍ كنتُ أعلل لنفسي. تضايق الوقت عليّ شيئًا فشيئًا. حتى قُبيل أن تناديني المنادية (ادخلي جمانة)؛ قررت:

"سأقرأ ما أشعر به اللحظة".

لما قيل: (اقرئي مما تحفظين) قرأتُ ما شعرتُ به حقًا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي٢٥ وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي٢٦ وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي٢٧ يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي٢٨ وَٱجۡعَل لِّي وَزِيرٗا مِّنۡ أَهۡلِي٢٩ هَٰرُونَ أَخِي٣٠ ٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِي٣١ وَأَشۡرِكۡهُ فِيٓ أَمۡرِي٣٢ كَيۡ نُسَبِّحَكَ كَثِيرٗا٣٣ وَنَذۡكُرَكَ كَثِيرًا٣٤ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرٗا٣٥...﴾ [طه] لقد ارتحت... لقد شرح الله صدري لاختيار هذه الآيات دون تخطيط أو تدبير سابِقَين! كان هذا أغرب ما حدث في المقابلة، وأكثر ما عجبتُ له في قرارة نفسي وإلى الآن! ثم توالت الأسئلة فالأجوبة حتى انقضت.
وعلى هيبة كل مقابلة وما يحيط بها من قلق؛ إلا أني خرجتُ من مقابلتي مبتهجة؛ أشعر بشرف المحاولة ونُضج استكمالها، راضية بالنتيجة أيًا كانت، فكل ما حدث خلال المحاولة -مما ذكرته ولم أذكره- كان مدرسةً لي.

         ومجددًا.. ظننتُ أن دوري قد انتهى؛ لأكتشف -فيما بعد- أن دوري قد "ابتدأ".


         الفصل الأخير:


(وكم من حاجةٍ لنا كانت كحُلمٍ ... أتاحَ الله لها الأسبابَ فكانت حقيقة)

         الحقيقة.. أن هذه القصة ليست بدايتها الدقيقة هي ما ذكرتُه.. ولو أردتُ ذكر لحظة البداية الدقيقة؛ فالبداية أني كنت نائمة! نعم.. نائمة؛ مع كل حرصي على تفقد إعلانات هذه الوظيفة إلا أنني تلك اللحظة بالذات كنتُ نائمة! إذ فتحتُ عيناي ذات يومٍ؛ لأجد عدة رسائل؛ لتُخبرني عمليًا وواقعيًا عِظم نعمة الأهل والصحب.. ولتدلني على صدق ودهم ودقيق لُطفهم! أرسل لي أخي: (فتحوا معيدية في تخصصك في الجامعة) وأرسلت لي صديقاتي: (راجعي الواتس للأهمية) (جمان طالبين عقيدة) (صباحك رضوان سجلي يا حبيبة..) (جمان فتحوا المعيدية في قسمنا ترى الحقي سجلي) وغيرها من مظاهر اللطف والمودة، والتي احتفظتُ بها "جميعًا"  في ظرف خاص كي لا أنساها؛ فمَن يلتفتُ لدقائق ما نحب؛ حقّه الحفظ والإكرام.

         على ذكر الظرف.. ماذا بالظرف أيضًا؟ كان في الظرف العديد من الرسائل التي تحوي ذات الكلمة التي سمعتُها كثيرًا في تلك السنة (مبارك).
لكن جميع تلك المباركات، لم يكن وقعها مثل وقع أول (مبارك) رسمية سمعتُها... لقد سمعتُها مفاجأةً من غير توقع البتة، وتلاشى حينها من ذاكرتي كل ما حدث، وبقيت العبرة الأكيدة: 

"يا إلهي.. ما أكرمك؟!"


         خاتمة:

         في رقعةٍ أخرى من رِقاع الأرض، حدثت أحداث أخرى لحمزة، فدخل على حسابه في تويتر، وكتب ثلاث تغريدات متتاليات، قامت أرياف بالإعجاب بها، فظهرت لي على التايم لاين؛ لأقرأها بعناية مرة ومرتين وثلاثة، فألتقط صورة للشاشة -لأقوم بطباعتها فيما بعد فأكوّن بها أوائل محتوى ظرف ذكريات هذا الحدث- وأنا أردد ملئ قلبي "سبحان الله!":
·       أخجل يا الله من هذا اللطف الذي تحيطني به من كل اتجاه .. بالرغم من تقصيري وبُعدي.
·      أقف وقوف العاجز عن الشُكر .. كيف لا وقد سترت على عاصي، وأنعمت على مُعرِض، ولطفت بظالمٍ لنفسه.
·      "اللهم أنت ربي .. لا إله إلا أنت .. خلقتني .. وأنا عبدك .. وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت .. أعوذ بك من شر ما صنعت .. أبوء لك بنعمتك علي .. وأبوء لك بذنبي .. فاغفر لي .. فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"

هذه قصة واحدة.. وأنا على يقين أن كل قارئٍ لو تأمل قليلًا؛ لوجد مثل هذا في حياته كثيرًا.

والله يا رفاق إنّ كرم الله على كلٍ واحدٍ منا واسع، ولُطفه بنا جميعًا خفي مفاجئ!
أوَ تدرون ما الذي يتضمنه اسم الله (اللطيف)؟ يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية. أوَ تدرون ما الذي في معنى اسمه (الكريم)؟ من معانيه أنه يبدأ النعمة قبل الاستحقاق، ويتبرع بالإحسان من غير استثابة. أوَ تلحظون أن من أسماء الله تعالى التي نُكثر ترديدها في الأذكار المأثورة والأدعية المشهورة: اسم الله (الرب).. أوَ تدرون ما الذي من معانيه العظام؟ من معاني ربوبية الله أنه المربي لعباده بالتدبير وأصناف النعم.

أوَ نُدرك جميعًا -إدراك يقين- أنه: لا حول ولا قوة لنا إلا بالله العليّ العظيم؟

اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. وأعنِّا ربنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.


كتبته: جمانة ثروت كتبي
مساء الثلاثاء 12/9/1441هـ
على مشارف انتهاء أول سنة من العمل





تعليقات

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. انا طالبه من طالباتك لاول سنه تدريس لك والله انك افضل شخص عرفتو في الجامعه واتابعك باستمرار 💗💗💗الله يوفقك

    ردحذف
  3. بارك الله فيك
    مؤلفاتك من أجمل ماقرأت

    ردحذف
    الردود
    1. الله يبارك فيكم ويرضى عنكم أم عاصم

      حذف

إرسال تعليق