قارب صغير ثم سفينة


قارِبٌ صغير ثم سَفينة



         منذ أن يقول الأستاذ: "سيكون لديكم واجب جماعي.." تصدر أصوات عالية حينًا -وخافتة بل صامتة في أحيان كثيرة- فحواها أن أرجوك كلّفنا بما شئت لكن فُرادى.. هذا مشهدٌ أزعم أنه مألوف ومتكرر، مرّ على الواحد منا في الحقل التعليمي مرةً واحدةً على الأقل.

         كنتُ في صف مُصدري الأصوات أو الصامتين اعتراضًا رجاءَ التغيير، ولم أنظر للأمر سوى من زاوية واحدة دائمًا، زاوية: طيب هناك مَن لا تعمل؟ طيب هناك مَن تقوم بأي شيء حتى لو كانت حقيقته لا شيء؟ طيب هناك مَن تتأخر وتؤخرنا؟ هناك وهناك.. حتى ألجأ إلى الحلّ الوحيد -فيما يبدو لي- الذي يُخرجني من هذه الأزمة؛ فآخذ زمام المبادرة في إدارة مجموعتي؛ لأضمن أن كل شيء يسير على ما يُرام، حتى لو كان ذلك يعني أن أتمم جزئيةً أو أُعدّ أخرى من الصفر أو أسهر ليلًا انتظار إرسال جزئياتٍ أخرى.
         أتوقع أن كثيرين يلجؤون إلى مثل هذا، وينجحون غالبًا في حلّ أزمتهم، لكن.. آمل أن يعلموا كما علمتُ فيما بعد: أننا ارتكبنا خطأً! خطئي وخطؤكم أننا لم نُتح الفرصة لغيرنا أن يُجرّب غُنْم الترأس وغُرْمَه.

         الواجب الجماعي، التكليف الجماعي، النشاط الجماعي، فريق العمل.. سمِّه ما شئت؛ فإن الفكرة الجوهرية أن هناك نتيجة مشتركة بين أفراد متعددين.. بل ومختلفين! مختلفين في شخصياتهم، واهتماماتهم، ومهاراتهم، وطرائق تفكيرهم، وآلية تفاعلهم مع الأخطاء، وغيرها. قد يختلفون في كل شيء، لكن يجمعهم همّ مسؤولية العمل المكلّفين به. أي أن الأشخاص من فريق العمل الواحد قد ركبوا اختيارًا -أو أُركِبُوا اضطرارًا- على قاربٍ واحد؛ خطأ الواحد منهم خطأ الجماعة، وإصابة الواحد منهم إصابة الجماعة.

         نعم هناك سلبياتٌ للواجبات الجماعية في المجال الأكاديمي في ذاتها أو في تطبيقها وتفعيلها، لكن هذا ليس سببًا كافيًا للإعراض عنها! فلها كذلك إيجابيات، مثلها مثل الواجبات الفردية لها سلبيات وكذلك لها إيجابيات من الضروري استغلالها. مثلهما مثل أمور كثيرة نقوم بها طمعًا في نفعها، واجتهادًا قدر الوُسع والطاقة في تلافي ضررها. مثلهما مثل ثنائية: مقالي أم موضوعي؟ عرض تقديمي -برزنتيشن- أم بحث؟ دور الأستاذ أم دور الطالب؟  كل هذه الثنائيات ضرورية، وكل قُطب منها يُحقق ما لا يُحققه الآخر.

         ما أريده هنا هو لفت الأنظار إلى أن المواقف التي يخوضها الطالب في البيئة التعليمية، مدرسةً كانت أو جامعةً أو ما يقوم مقامهما؛ فإن هذه المواقف سيتم خوضها مجددًا في نطاق البيئة المجتمعية، لكن ربما على موضوعات أكثر عمومية وواقعية من موضوعات الدراسة..

وبالحديث عن العمل كفريق في واجب جماعي، ففي حال التدرب المستمر على أداء كل فردٍ لمسؤوليته، واعيًا بتأثير أدائه على مستقبل بقية زملائه ومستقبله، متغاضيًا عن الهفوات، متعاملًا بحكمة مع الاضطرابات والنزاعات، دون تضخيم لمشكلة أو شخصنة لأخرى، حتى يُنجز المطلوب بصورة عاملٍ واحدٍ، فقد تحققت أهداف كثيرة في هذا الجو التكليفي.

         إن كثيرًا من مواقف الحياة لا يُشترط لخوضها المحبة ولا الرضا، ويقوم الإنسان ببعض الأمور تحت سطوة المسؤولية أكثر من كونه اختيارًا شخصيًا فرديًا.. فعدم إرادة التكليف بواجبات جماعية لا يعني أن الأساتذة سيتوقفون عن ذلك، وهذا بحدّ ذاته تدريبٌ للمتعلم على التكيّف مع الواقع، والسعي في إيجاد الحلول بدل الولولة. فإذا أضيف لذلك علم المتعلم أن حسّ المسؤولية الاجتماعية لا يتحقق في الواجب الفردي مثلما يتحقق في الواجب الجماعي، وأن فرض التعامل مع أنواع مختلفة من الناس؛ لتحسين الحسّ الاجتماعي ومهارات التواصل بين الناس؛ فَهِم المغزى... فليست كل مواقف الحياة نحن مَن نتحكم في اختيار نوعية الناس الذين نخوض المواقف معهم! فإذًا لابد من المران والمرونة؛ سعيًا لمجتمع متآلف متكاتف، يأخذ أفراده بأيدي بعضهم البعض.. وفي نهاية المطاف: فالمؤسسات التعليمية هي مؤسسات تربوية كذلك.

         ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا عظيمًا لِيُبين للناس مسؤوليتهم عن بعضهم البعض فيما يتعلق بشؤون دينهم، وهو ما يُعرف في الشريعة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول عليه الصلاة والسلام: "مَثلُ القائم في حدود الله، والواقع فيها كمَثل قومٍ استهموا على سفينة، فصارَ بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلَها، وكان الذين في أسفلها إذا استَقَوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونَجوا جميعًا" [رواه البخاري (2492)].

         الآن قدِّر مثال السفينة على مواقف حياتية اجتماعية أخرى.. كأفراد منزل التزموا القرار في منازلهم؛ وعيًا منهم بمسؤوليتهم تجاه مرض كورونا، فقط فرد واحد منهم يرى أنه يحق له الخروج، والأمور المتداولة هي مبالغة! فيخرج ويعود دون حاجةٍ حقيقة، ولا حتى قيام بإجراءات احترازية وقائية! فهذا الفرد بحاجة إلى توعية معرفية بالمسؤولية الاجتماعية.

هكذا مواقف الحياة؛ نكون على ذات السفينة في كثيرٍ من المواقف المصيرية -أدركناها أم لم ندركها- دون أن يتوقف أحد فيسألنا عن رأينا في أفراد الفريق! وأحيانًا دون أن تكون لنا رفاهية التعرف على كل فردٍ منهم لتقدير ما يُمكن لكلٍ القيام به..

         إن تعويد الطلاب على هذا الأسلوب الجماعي في إنجاز المهام وحلول المشكلات؛ لهو تدريبٌ مصغّر ومُرفّهٌ لمسؤوليات جماعية مستقبلية، لابد أن يأخذ الجميع فيها بأيدي بعضهم البعض.. فإنْ أخذ الواعون بأيدي المقصرين نَجوا ونجوا جميعًا. وإن أعرض ونأى كلٌ منهم ونادى "نفسي نفسي" فيُخشى على مصير تلك السفينة؛ إلا أن يُسخّر الله لها ما يُدفع به البلاء. 



كتبته: جـمانة ثروت كتبـي
الأحد 27/ 7/ 1441هـ


تعليقات