حتى تكون عاقبتنا رشدا



حتى تكون عاقبتنا رشدًا

رسالة إلى الشباب المصاب بالشبهات




حين سمعتُ من أخي -ذي الخمس والعشرين عامًا- خبر إلحاد أحد زملائه في تخصصه الجامعي، حزنتُ كما حزن أخي وزملاؤه، لكني لم أتفاجأ كما تفاجؤوا هم! فمنذ بضع سنوات وأنا أتابع طرح المختصّين المهتمين بالتحذير من الملف الإلحادي، والموجة التشكيكية المعاصرة وتأثيرها على الشباب العربي المسلم.

ومع أن أصل هذه التشكيكات هي ظاهرة نقد الدين التي نشأت في العالم الغربي وعبرَت منها إلى بلدان مختلفة، حتى وصل شرها إلى عالمنا الإسلامي،([1]) لكن.. لعل أبرز ما جعل هذه الموجة تطفو على السطح، هو حضورها السافر مع بروز نجم شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، التي "يسّرت لأصحاب الشبهات بث شبهاتهم دون إجراءات وتعقيدات، ومنحت لطالبي الشهرة فرصة لأن يبحثوا عنها في المخالفة والشذوذ، على قاعدة: (خالِف تُعرف).."([2]) .

هذه المقالة لم أعتنِ ببنائها الأدبي كثيرًا، وغرضي منها تعريفُ الشباب بالجهود المتضافرة المتوافرة على الساحة؛ لمواجهة هذه الموجة التي تهدم صاحبها ولا تبنيه، وتُوهمه بشعاراتها البرّاقة أن الملحدين عقلانيون أحرار، شجعان رافضون للموروث.. هذه الموجة قد سخّر الله لها مَن يختصّ بالوقوف على الثغرة التي أحدثتها -وما أكثر الثغور التي تحتاج للواقفين عليها بجديّة- وهذا من الخير الذي تنطوي عليه الموجة؛ إذ استُنهِضت الهمم، وتجدّدت الأساليب، والتفتت أعين البعض إلى القراءة في دينهم؛ لتعزيز إيمانهم وتقوية صلتهم بالله تعالى. ([3])

فالإلحاد -الذي هو النتيجة النهائية لتراكمات من الشبهات الفكرية- لا ينشأ في يومٍ وليلة! ولا يرجع -في الغالب- إلى سببٍ واحد يُذكر هكذا عرضًا دون وقوف! بل هو ظاهرة من الظواهر الاجتماعية، والظواهر الاجتماعية مركّبة معقّدة، فمن أسباب الإلحاد: الانبهار بالتقدّم المادّي للعالم الغربي الغالب، والاحتكاك المباشر بثقافاته، والنهل المستمر من أفلامه([4]) ورواياته. هذه الأسباب وغيرها لا تؤثر بمفردها، بل حلّت بقلبٍ صاحبُهُ قليلُ البضاعة في العلم الشرعي، ضعيفُ الاستزادة من الجانب التعبدي، يجهل حسن التصرف مع المشكلات النفسية والضغوطات الاجتماعية.([5]) وهذه الأسباب -وغيرها- مستلّةٌ من أرض الواقع، ومن حوارات حقيقية بين متشككين ومختصين، إضافةً إلى انعقاد دراسات خاصة ببعض هذه الأسباب، وبعضها بُحث في نطاق البيئة الغربية الأم للإلحاد. ([6])

أيها الشباب.. إن أعظم الانتصارات في حياة الإنسان المسلم أن يحافظ على إيمانه حتى يلقى الله تعالى([7])، وإن كان يوسف عليه السلام فيما قصّ الله علينا، وذكر أن قصته من أحسن القصص.. ذكر في ختامها أن يوسف عليه السلام -وهو نبي ابن نبي ابن نبي- سأل الله تعالى أن يتوفاه على الإسلام، قال تعالى ذاكرًا دعاء يوسف: {.. فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وكان -سيد ولد آدم- نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: "اللهم يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" [الترمذي (2140)]، فمع تضافر أدعية الأنبياء بسؤال التثبيت والوفاة على الحق من الدين؛ فإن مع الدعاء وسائل أخرى([8])  كثيرة، تعين على الثبات بتوفيق الله. وأهم الوسائل على الإطلاق: الاعتصام بالكتاب والسنة.

أما القرآن فلا يخفى على مسلم قَدرُه، غير أن التنبيه ههنا على أن من كمال القرآن وعظيم هدايته أنه ردّ على أصول كثيرٍ من الشبهات، التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين، ولقد قال الله عزّ وجل صراحةً: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33]، "أخبر سبحانه أن الكفار لا يأتونه -صلى الله عليه وسلم- بقياسٍ عقلي لباطلهم إلا جاءه الله بالحق، وجاءه من البيان والدليل، وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم"([9]). فـ"يخطئ مَن يظن أن القرآن الكريم لم يتعرض لمخاطبة الملحدين، ولم يعرض لشبهاتهم ويدحضها، ولا لكيفية مجادلتهم ومناقشتهم، فالحق الذي لا ريب فيه: أن القرآن من أوله إلى آخره خطاب موجّه إلى ذوي العقول والأبصار، وذوي اليقين والفكر، وغني بالأدلة العقلية اليقينية على أصول الإيمان.."([10]) "فالقرآن إنما جاء ليهدي ويثبت المؤمن على هذه الهداية، وهذا التثبيت لا يتم بقراءته جملةً واحدةً، وأن يُمر عليه سريعًا بختمةٍ عجلى، وإنما تكون بقراءته منجمًا على الأيام، بتدبرٍ وترتيل، وتشرّب لمعانيه العظام مرارً وتكرارًا.." ([11]) فإذا أضيف لهذا التدبر القرآني قراءاتٌ في الدراسات الشرعية التي تفصّل الهدايات القرآنية وتجلّيها؛ لكان نورًا على نور، ([12]) {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].

وأما السنة النبوية فإياك وسبيل المزهدين فيها -أيًا كانت مكانتهم-، فقد أثبت الواقع -للمهتم المتابع- أن من مقدمات الإلحاد: الهمز واللمز في أهميتها ومشروعية العمل بها،([13]) ويكفينا أن من الاعتصام بالقرآن الاعتصام بالسنة النبوية؛ لأن الله أمرنا بذلك في القرآن في مواضِع كثيرة، منها قوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقد تنبّأ صلى الله عليه وسلم بالمنكرين لسنته، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا ألفيّن أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه أمرٌ مما أمرتُ به أو نهيتُ عنه فيقول: ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" [أبو داود (4605) والترمذي (2663)]. ([14]) 

فإن أصابتك الشبهة بسهمٍ؛ فاطمئن ولا تجزع، وتوجّه إلى أحد المنابر الآتية التي خُصصت لإرشادك:

تريد ما تقرأ ليطمئن قلبك، فدونك إصدارات المراكز التالية: مركز تكوين - مركز دلائل - مركز براهين - مركز رواسخ – مركز تبصير. وانظر كذلك إلى (المادة النقدية للفكرة الإلحادية) الملحقة في خاتمة كتاب (ميليشيا الإلحاد)، وقد ضمّنتُ هذه المقالة في الحواشي كتبًا كثيرةً مما أعرف؛ وبالتأكيد هناك الكثير مما لا أعرف..

تقول: لا أقرأ وإنما أُفضّل المشاهدة! أقول لك: لا بأس، تابع القنوات اليوتيوبية التالية: قناة مركز دلائل – قناة وضوح – قناة مركز رواسخ – قناة مركز يقين. هذا غير الجهود الفردية لمختصين شرعيين وغير شرعيين -مهتمين بالملف الإلحادي، كلهم يدافع عن الإسلام من جهته-، سواءً على قنواتهم اليوتيوبية أو على صفحاتهم في مختلف مواقع التواصل الاجتماعية.

تقول: أريد توسعًا وأناسًا أسائِلُهم وأحاورهم مباشرة! أقول: عزُّ الطلب، فهناك (صناعة المحاور) دبلوم دراسي عن بُعد، يهدف إلى تعزيز اليقين بأصول الإسلام وثوابته، وتأهيل المحاورين للرد على المشككين؛ وهذا البرنامج يلتحق به الطبيب والمهندس والطالب والمعلم... الخ، وقائمة خرّيجه متنوعةٌ من حيث التخصصات العلميّة والرقعات الجغرافية، ويلمس كل مَن التحق به تغييرًا حقيقيًا نحو الأفضل بتوفيق الله، إذ المتخرج سيخرج بأحد أمرين: إما الشعور ببرد اليقين بإذن الله، وإما أن يكتسب مع اليقين تأهلًا جادًا لمحاورة المشككين وتبيين مغالطاتهم بتوفيق الله. وهناك فرصة للتواصل المباشر مع بقية الملتحقين إذ بالإمكان المدارسة وتبادل الحوار.

تقول: وقتي لا يكفي لكل هذا! فأرشدك إلى أسرع الطرق، إلى موقع (المحاور) ([15]) الذي انبثق من صناعة المحاور، إذ تتوفر فيه بيئة حوارية آمنة، يُستقبل فيها المتشكك ذو الأسئلة، ويتحاور مع مختصين متخرجين من صناعة المحاور.

الذي أريد إيصاله لكم معاشر الشباب ثلاثة أمور:

أولًا/ أننا جميعًا مطالبون بالمحافظة على ديننا، وتعاهد إيماننا، وهذا لا يتعارض مع تطلّب أحدنا زيادةَ اليقين -في حال انقدح أمرٌ في القلب- في ظل زماننا الذي كثرت فيه التقلبات أكثر من غيره.

ثانيًا/ أريدكم أن تعلموا: أن ما يثيره المشككون قديم.. قديم.. قديم.. لم يكتشفوه بعبقريتهم ولا عقلانتيهم التي يتغنون بها.. بل غالب ما يُثار قديم؛ ناقشه المختصون المعاصرون، ومن قبلهم العلماء المتقدمون، "الشبهات في جوهرها واحدة لا تتغير، وإنما الذي يتغير القالب الذي تصب فيه، والكيفية والأسلوب" ([16]) لكن مَن يقرأ في العلوم الشرعية؟ الذي يقرأ مِن شبابنا يقرأ في الروايات أو التنمية البشرية أو الفلسفة، وقليلٌ مَن يهتم بالعلم الشرعي من مصادره الأصلية! بينما ما يثيره المشككون على صفحاتهم ومقاطعهم تم تبيان تهافته قديمًا، وما يستجد من شبهاتهم فمندرجٌ تحت قديمه، والمختصون المعاصرون له بالمرصاد.

ثالثًا/ وبه أختم: من قصص سورة الكهف التي نقرؤها كل جمعة، قصة أصحاب الكهف.. وإذا تأملتم معي فهم شبان مؤمنون {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ}، لما خشوا الفتنة فروا بدينهم -أغلى ما يملكون- إلى الكهف، وهناك... دعوا الله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي: رحمةً تثبتنا بها وتحفظنا من الشر وتوفقنا للخير، {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أي: يسّر لنا كل سبب موصل إلى الرُشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا. فجمعوا بين (السعي) و (الفرار من الفتنة) إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين (الدعاء) إذ تضرعوا لله وسألوه تيسير أمورهم، ولم يتكلوا على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعائهم. ([17])


اللهم كما حفظتَ لأصحاب الكهف دينهم؛ فاحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، اللهم يا مُقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، اللهم توفّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.



كتبته: جـمانـة ثــروت كتـبــي


الإثنين: 11 / 5 / 1441هــ


* لتحميل المقالة: PDF



([1]) انظر: ظاهر نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، د. سلطان العميري، (1/13). ط1/ مركز تكوين.
([2]) سابغات، أ. أحمد السيد، ص (33). ط1/ مركز تكوين. وهذا الكتاب كتبه مؤلفه ليكون لقارئه درعًا معنويًا حاميًا من الشبهات، حوى جزءًا نظريًا عن موجة الشبهات، ثم جزءًا عمليًا بذكر أبرز الشبهات المثارة وكيفية التعامل معها. أنصح بغير الطبعة الأولى؛ لأن فيها زيادات وتعديلات، غير أني فقدتها أثناء كتابة هذه المقالة فأحلتُ إلى الطبعة القديمة.
([3]) انظر: سابغات، ص (29-31).
([4]) انظر لأجل هذا السبب وحده لكتاب: الميديا والإلحاد، م. أحمد حسن. ط مركز دلائل.
([5]) راجع أسباب التأثر السلبي بالشبهات الفكرية المعاصرة في كتاب: سابغات، ص (32-46).
([6]) انظر مثلًا دراسة بول فيتز بعنوان: (نفسية الإلحاد) ترجمة: مركز دلائل.
([7]) انظر: وسائل الثبات في زمن المتغيرات، أ. د. عبدالله الدميجي، ص (5). ط2/ دار طيبة الخضراء.
([8]) راجع: وسائل الثبات في زمن المتغيرات، فقد ذكر مؤلفه خمسة عشر وسيلة للثبات، استنبطها من خلال التأمل في القرآن والسنة وهدي سلف الأمة.
([9]) مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع ابن قاسم وابنه، (4/106).
([10]) منهج القرآن الكريم في دحض شبهات الملحدين، أ. أفنان الغماس، ص (33). ط1/ مركز دلائل.
([11]) آخر موضوع تحدث عنه م. عبدالله العجيري في كتابه: مليشيا الإلحاد، ص (185). ط1/ مركز تكوين.
([12]) إليك أمثلة مما وقفتُ عليه، لو أردتَ قراءتها فراعِي الترتيب المذكور: (النبأ العظيم) د. محمد دراز، (تنزيه القرآن عن دعاوى المبطلين) د. منقذ السقار، (الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد) د. سعود العريفي، (أفي النبوءة شك؟) د. سامية البدري.
([13]) لو أصابك سهم الشبهة في باب السنة النبوية، فتوجه إلى الكتب التالية على الترتيب: (أفي السنة شك؟)، (تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين) كلاهما لـ أ. أحمد السيد، (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) د. مصطفى السباعي.
([14]) انظر: وسائل الثبات في زمن المتغيرات، ص (23).
([16]) منهج القرآن الكريم في دحض شبهات الملحدين، ص (247).
([17]) راجع: تفسير السعدي، عند آية (10) من سورة الكهف.





تعليقات