على رِسلِكُم



على رِسْلِكُم!


        من عادتي أن أضع إعلانات الدورات العلمية والفعاليات المفيدة عمومًا في (حالتي) على الواتس أب.. خصوصًا وأن لكل إعلان أهله الذين يُقدّر لهم معرفة الحدث الذي قد ينفعهم من نافذة حالتي. لذلك كان عليّ أن أكون أكثر انتباهًا لما أختار نشره؛ إذ ليس جميع مَن في قائمتي ذو اهتمام وتخصص واحد! وبما أن تخصصي (العقيدة) فمن الطبيعي أن يكون كثير مما أطرحه متعلقٌ بالعقيدة خصوصًا والمجالات الشرعية عمومًا.

         نشرتُ مرةً إعلان بدء التسجيل لمذاكرة إحدى الكتب المهمة لطلبة العقيدة (مذاكرة الرسالة التدمرية) وبكل ثقة.. أتبعتُ الإعلان بتوصية أحد أساتذة قسمي المشهورين بعلمهم ونشاطهم للالتحاق بهذه (المذاكرة)، ثم التفتُ لأشغالي... حتى جاءتني إحدى أخواتي قائلة: "حكّيني عن الرسالة التدميرية!"!!
أعدتُ كلامها في ذهني وأخذتُ أقلّبه..! ثم هرعتُ مسرعةً لهاتفي لِأُتبِع الإعلان والتوصية بتعليق من عندي: ((منعًا لإشكال قد يُتوهّم: إعلان المذاكرة التي وضعتها.. عن رسالة كتبها مؤلفها إجابةً على بعض المسائل العقدية التي طلبها سائل من مدينة تَدْمُر -مدينة قديمة بوسط سوريا-..)) فهي إذًا الرسالة التَّدْمُرِيّة ([1]) وليست التَّدمِيرِيّة!
         صدّقوا أن الأمر تكرر بعد بضعة أيام مع أخي، الذي نظر إلى أوراق أجوبتي على اختبار القبول في دورة المذاكرة، فقال: "يا سِتِّير!([2]) الرسالة التَّدمِيرِيَّة!".....

         في تغريدةٍ عن موقف مشابه.. حكت أ. سارة الشرفي -تخصص حديث وعلومه- عن سوء فهم الموظفة المسؤولة عن البحث عن مواقع الكتب في أحد معارض الكتاب: ((في معرض للكتاب بَحَثَت لي عن كتاب طلبته منها، فنظرت إليّ مليًا، ثم قالت-وقد امتعض وجهها-: "لم أجده" فنظرتُ في خانة البحث وإذا بها قد كتبت "كتاب الجرح والتعذيب!!" زال بعدها استغرابي من امتعاض وجهها المتزايد فعن ماذا كنتُ أبحث؟ وماذا كانت تظن فيّ؟)) الحقيقة أن أستاذتنا كانت تبحث عن كتاب بعنوان (الجرح والتعديل) المخصص لمعرفة درجة عدالة وصدق رواة الحديث ([3])، أما ما ظنته الموظفة فهو متروك لأفهامكم.

         أن تقرأ لافتة محلٍ -والسيارةُ مسرعةٌ بك- "طعمُهُ لذيذ" بدل أن تقرأ "طَعمِيّة لذيذة"، وأن تقرأ لافتة عيادة الأسنان "إلّا أَنَّـهُ" بدل "إِلَانـة".. تجعل من الحدث مضحكًا، وتخلده كذكرى بحيث أني استطعتُ أن أستحضر هذين الموقفين الآن. لكن حدوث هذا النوع من الخطأ وسوء الفهم في سياقات من مثل: التسجيل لدورة لمذاكرة رسالة تدميرية، والبحث عن كتاب بعنوان الجرح والتعذيب = مُشكِلٌ جدًا وخطير.. جدًّا!
          مَن قرأ بشكل خاطئ عنوان الكتابَين سيُسيئ فهم مضمونهما، ثم سيُكوِّن تصوّرًا سيئًا عن كاتبَيهما وقارئَيهما، وقد يكون الوضع أسوء من هذا فيُصدر تعميمًا من مثل: "طلبة الشريعة ([4]) كذا وكذا". ولو لم تتم المسارعة بالتصحيح، لَفَهم -مَن طبعه التعجّل- ما يُفهم من كلمتَي: تدمير وتعذيب!

         البعض يقول: هذا شأن من أساء القراءة ثم أساء الظن وتعجّل الحكم. وأنا لا أحبذ هذا المنطق، إذ أؤمن أننا مطالبون بإزالة الشُّبه عن أنفسنا، فما البال لو أن إزالة الشبهةِ عن نفسك ستزيل الشبهة عن طلبة العلم وربما الدين؟ فلقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ حين قال للرجلَين اللذين رأياه مع زوجه صفية -رضي الله عنها- دون أن يعرفا أنها هي في ذاك الليل، فأسرعا مبتعدَين حياءً من رسول الله، فقال لهما أشرفُ الخلق وأبرؤُهم عن الخطأ عليه الصلاة والسلام: "على رِسْلِكُما إنّما هي صفيّة بنت حُيي". ففي الحديث: "التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار"([5])  فإذا خشيتَ أن أحدًا ظنّ بك شرًّا فينبغي عليك أن تخبره بالواقع وتزيل أسباب الوسواس من قلبه، ([6]) فالشيطان له تسلُّط على الإنسان ينبغي أن لا نغفل عنه، وهو ما أجاب به صلى الله عليه وسلم على الرجلين حين سبّحا إكبارًا منهما أن يظنا سوءًا برسول الله صلى الله وسلم، فقال مجيبًا عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان يبلغُ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شيئًا" ([7]).

         الأمر أبعد من أن يكون خطأً في قراءة عنوان كتاب.. وإنما هي مواقف أثارت في ذهني أهمية التذكير بهذا المسلك النبوي، وإلا فهذا متصلٌ أيضًا بالمواقف المتعلقة بأخلاق الإنسان ومروءته ودينه. والمسلم الذي يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه يحرص على صيانة قلوبهم من الوقوع في شأنه بخاطر سوء.
         إنه ليس رياءً ولا اهتمامًا بما يقوله الناس، إنما هو من باب صيانة النفس عن التصورات الفاسدة، ولاشك أن مَن يُساء فَهمُه أو فهم كلامه ليس مُلامًا في كل حال، وكذلك مَن وقع سوء الفهم منه ليس بريئًا في جميع الأحوال! المسألة تختلف من حالٍ إلى حال.. وإنما المقصود أن لا تترك إزالة اللبس والإشكال عن نفسك دائمًا، بل قدّر ووازن الموقف ليخرج الجميع بأقل الأضرار.

         والحال: أنّ المواقف تعتمد كثيرًا على مبادئ وقيم كثيرة متراكبة: محادثة الناس ابتداءً بما يعقلونه، ولكل مقامٍ مقالٌ يناسبه، والبيان والتَبْيين لما يُحتمل لَبسُه... في مقابل تمثّل الطرف الآخر بسلوكيات من نحو: حسن الظن، وعدم المسارعة لإصدار حكم، والاستفسار عن الـمُشكل... فإخلال الأطراف المعنيّة بهذه القيم والسلوكيات.. هو طريقٌ مُيسرٌ لعملية النزغ بين المؤمنين، و{إنّ الشيطانَ للإنسانِ عدوٌ مبين}([8]) .


جمانة ثروت كتبي
6 / 1 / 1441هـ





([1]) يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عن الرسالة التدمرية: "وكانت هذه الرسالة من أحسن وأجمع ما كتبه -ابن تيمية- في موضوعها على اختصارها..." تقريب التدمرية، ص (11). وقال عن صاحب الرسالة التدمرية: "وكان من جملة من قيّضهم الله تعالى لنصرة دينه والذّب عنه باللسان والبنان والسنان شيخ الإسلام: أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية..... ولقد كان له رحمه الله مصنفات كثيرة في مجادلة أهل البدع ومجالدة أفكارهم ما بين مطولة ومتوسطة وقليلة، وحصل بذلك نفع كبير.." ص (9). ط/ مدار الوطن.
([2]) الذي ثبت في السنة النبوية الصحيحة هو اسم الله "الستير": "إن الله حيي ستير.."، ويجري على ألسنة كثير من الناس قولهم "يا ساتر" أو "يا ستّار" ولم يرد هذان الاسمان لا في القرآن ولا في صحيح السنة، لذا ينبغي استبدال ذلك بـ"يا ستير". انظر: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، عبدالعزيز الجليل، ص (734). ط3/ دار طيبة. وانظر: النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، محمد النجدي، ص (626). ط3/ مكتبة الإمام الذهبي.
([3]) الجرح والتعديل ليس اسمًا لكتاب واحدٍ فقط، وإنما هو علم يتعلق ببيان مراتب الرواة من حيث تضعيفهم أو توثيقهم بتعابير فنية متعارف عليها عند علماء الحديث، ولها أهمية في نقد الإسناد. والجرح والتعديل الذي هو الكلام عن الرجال ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كلام لأجل صيانة الشريعة لا للطعن  في الناس. انظر: علم الرجال، أ. د. أحمد الزهراني، ص (100).
([4]) كتبتُ: (طلبة الشريعة) لأني أرى أن عامة الناس -في الغالب- لا تميّز بين علوم الشريعة المتنوعة، فالجميع عندهم سواء.
([5]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، عند الحديث (2035).
([6]) انظر: شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين: (6/666). ط11/ مدار الوطن للنشر.
([7]) راجع الحديث بطوله: البخاري (2035).
([8]) "لا يفتر عنه ليلًا ولا نهارًا، ولا سرًا ولا جهارًا، فالبعد عن الأسباب التي يتسلّط بها على العبد أولى..." تفسير السعدي، عند آية (5) سورة يوسف.





تعليقات