نعمة منسية



نِعمَة مَنسِيّة!

عادةُ مَن يَسبَحون في بحرِ من النِّعَم ألا يُدركوا قيمتها، ولا يقفوا لشكر واهِبِها إلا قليلًا، وأفترض أن المتوقف ليعد النّعم المحيطة به لن يستطيع صبرًا! وسيخلص إلى ما علّمنا الله سبحانه في كتابه الكريم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل:18]. وعدم قدرتنا على إحصاء نعم الله لا ينافي أن نعمل ههنا بالحكمة القائلة: "ما لا يُدرَك كُلُّه لا يُترَك جُلّه".

النِّعمة التي سأذكركم بها؛ أنتم تستخدمونها الآن! ليست أعينَكم ولا عقولَكم، وليست التقنية الإلكترونية ولا الطاقة الكهربائية، هي ليست كفوف الراحة والأمن، ولا سعة الوقت ولا لحظة الحياة. هذه النعم العظيمة التي مُكِّنتم بها من القراءة ليست ما أريد.

لم يسبق أن فكرّتُ في هذه النّعمة أيضًا؛ حتى قرأتُ على التلفاز ذاتَ مساء ([1]):
"Such was Jesus, the son of Mary: a testimony of truth about which they dispute." 
أي: {ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}.!



أرأيتم القضية التي يجادل فيها النصارى فيما بينهم، بشأن عيسى ابن مريم؟ "فمن قائل عنه: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة" ([2]) نحن -بفضل الله ورحمته- عرفنا القول الفصل في كتابنا المجيد، بهذه الآية وبآيات أُخرى أكثر تفصيلًا وحِجَاجًا.. وهذه القضية التي هي أم العقائد عند أتباع أكثر الملل وجودًا على الكوكب ([3])، والذين ينسبون أنفسهم إلى المسيح -عليه السلام-، ليست بأهم ما ورد بيانُه بيانًا شافيًا في كتابنا، بل جاءت قضايا أُخرى عظيمة، تشغل البشرية جمعاء عن طريق تفكّرهم في أسئلةٍ من نحو: (مَن نحن؟ كيف وُجدنا؟ مَن أوجدنا؟ ما سبب وُجودنا؟ ما مصيرنا؟) هذه الأسئلة قد عَلِمنا نحن أجوبتها اليقينية من الوحي السماوي.

إن هذا الكتاب الذي حوى من الموضوعات المصيرية المهمة، قد يُسِّر لنا فهمه عند سماعه وتلاوته، فكل هذا العلم الذي نأخذه ونتزّكى به قد حصّلناه بتلك النعمة المنسية..

ما حصّلناه إلا بأن رُزقنا (العَربية).

نعم.. سبحان الذي قال: {آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:1-2]، {المبين} أي: الواضح الجليّ، الذي يُفصِح عن الأشياء الـمُبهمة ويُفسّرها ويُبيّنها. ومن بيان هذا الكتاب أنه نزل باللسان العربي، أشرف الألسنة وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني، فأشرف الكتب الحاوية لكل ما يحتاجه الناس من الحقائق نزل بأشرف اللغات. ([4]) وإذا كان للقرآن الكريم (سطوةٌ عجيبةٌ) ([5]) تأخذ بِلُبِّ مستمعيه –فهموا خطابه أم لم يفهموه– فكيف بنا وقد حُزنا السطوة والفهم؟ إذ إنني وإياكم لا يشقّ علينا فهم معاني القرآن جملةً إذا سمعناه، ولا يصعب علينا التفاعل مع أمره ونهيه إذا قرأناه، والجامع بين سماعنا وقراءتنا هو هذا اللسان الذي به نعقل مراد القرآن.

"إن اللسان من عناصر وجود كل أمة ومن أمارات حياتها، ولسان العرب على التخصيص، لأنه اللغة الرسمية لكل مسلم. إنه لسانُ كتابِه الذي هو عمادُ دينِه والذي لا تصحّ صلاة المسلم إلا بتلاوة شيء منه؛ فالعربية والإسلام مقترنان اقتران الفَرقَدين.." ([6]) ولأجل هذه العلاقة الوثيقة بين (الإسلام) و (العربية) قال الشافعي -رحمه الله-: "فعلى كل مسلم أن يتعلّم من لسان العرب ما بلغه جهده" لكن لماذا يا إمام؟ "حتى يَشهَد به أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، ويتلوَ به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افتُرِض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح، والتشهد، وغير ذلك." ثم أعطانا قاعدة: "وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَن ختَم به نُبوته، وأنزَلَ به آخر كتبه: كان خيرًا له." ([7])

         إننا أولي نعمةٍ عظيمة! ملَكنا بها سبيل الوصول إلى معاني الحق من غير كَلَفة.. وكما ننهل من القرآن والحكمة بيُسر فعلى عواتقنا -بمجموعنا كأمة- تقع مسؤولية تيسير وصول معاني القرآن الكريم وهُداه إلى العالَمين، وكلٌّ يعمل على شاكلَتِه وما يُسّر له، وإلا فأيسر العمل مني ومنكم هو أن نستشعر نعمة العربية ونحمد الله عليها، وإن زدنا على ذلك خيرًا فخيرًا..

ويكفيني هذا القدر من التعبير، وحسبي أن مَن بلّغتُه سيُحسن التدبير.


جمانة ثروت كتبي
الإثنين: 5 / 11 / 1440هـ


أوكودا الياباني | بالقرآن اهتديت ج2 (الحلقة 11)

مهدي الهولندي | بالقرآن اهتديت ج2 (الحلقة 20)

هوجو السويدي | بالقرآن اهتديت ج2 (الحلقة 21)

ياسمين الأمريكية | بالقرآن اهتديت ج3 (الحلقة 24)


ولمزيد فائدة استمع لمحاضرة أ. د. عبدالمجيد الطيب عمر، بعنوان: 
(لغة القرآن وتميزها عن سائر لغات العالمين) على اليوتيوب.






([1]) قرأتها في رمضان 1436هـ.. على قناة القرآن الكريم، إذ كان الإمام يقرأ بالجزء السادس عشر في الحرم المكي بسورة مريم.
([2]) تفسير السعدي، سورة مريم – آية (34).
([3]) كون النصرانية ذات أتباع أكثر حسب بعض الإحصائيات، لا يعني أنها الأكثر توسعًا بشكل مستمر. وتسمية دينهم بالنصرانية أولى من تسميته بالمسيحية؛ لما في الثانية من الزعم بمتابعتهم لعقائد المسيح عليه السلام، وهو من شركهم وتحريفهم بريء.
([4]) انظر: تفسير ابن كثير وتفسير السعدي، للآية (3) من سورة يوسف.
([5]) راجع مقالة (سطوة القرآن) في كتاب: الطريق إلى القرآن، أ. إبراهيم السكران.
([6]) فصول في الثقافة والأدب، علي الطنطاوي: ص (176). ط2/ دار المنارة.
([7]) الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر: ص (108-109). ط1/ دار ابن الجوزي.

تعليقات